من التاريخ

الأصْحَابُ والتّشيّع

 

الشيخ محمد جواد مغنية
ذكر ابن أبي الحديد في «شرح النهج»، والسيد محسن الأمين في الجزء الثاني من «الأعيان»، وكرد علي في «خطط الشام»، والسيد حيدر الآملي في «الكشكول فيما جرى على آل الرسول» ذكر هؤلاء وغيرهم أن جماعة من أصحاب رسول اللّه كانوا يدينون بالتشيع، ويعتقدون أن النبي نص على علي باسمه، وعيّنه خليفة على المسلمين من بعده، وجعله أولى بالناس من أنفسهم، ثم دكروا أسماء هؤلاء الأصحاب.
ولا شيء أقرب إلى التصديق من هذا القول، لأن مقياس الصدق لأقوال المؤرخين وغيرهم هو الواقع، فإن كان ما يدل عليه وجب القبول، وإلا وجب الرد. وتشيع جماعة من الأصحاب لعلي أمر طبيعي، وحقيقة يفرضها الواقع بعد أن كان النبي هو الباعث الأول لهذه العقيدة، كما قدمنا. وليس من المعقول أن ينقض جميع الأصحاب عهد نبيهم، ويخالفوا بكاملهم ما جاءهم به من البينات.
وأيضاً ليس من المعقول أن يتشيع جماعة من الأصحاب، ثم لا يظهر أي أثر لتشيعهم، بخاصة بعد أن صرفت الخلافة عن علي إلى غيره، ومن هنا رأينا هؤلاء الأصحاب يؤلفون حزباً مناهضاً لبيعة أبي بكر وخلافته.
قال السيد محسن الأمين في القسم الأول من الجزء الثالث «لأعيان الشيعة» ص ٣٠٨ وما بعدها طبعة ١٩٦٠ (1):


«انقسم الناس بعد وفاة النبي أحزاباً خمسة:
١ - حزب سعد بن عبادة رئيس الخزرج من الأنصار.
٢ - حزب أبي بكر وعمر، ومعهما جل المهاجرين.
٣ - حزب علي، ومعه بنو هاشم، وقليل من المهاجرين، وكثير من الأنصار الذين قالوا: لا نبايع إلا علياً، كما جاء في تاريخ الطبري.
٤ - حزب عثمان بن عفان من بني أمية ومن لف لفيفهم.
٥ - حزب سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن من بني زهرة.
ومال قسم كبير من الأنصار مع حزب أبي بكر وعمر، فقوي حزبهما، واضطر عثمان، وحزب ابن أبي وقاص أن يبايعوا أبا بكر، وبقي حزب علي هو المعارض الوحيد، وحاول أبو سفيان أن يستغل الموقف، ويساوم أبا بكر، فجاء إلى علي وقال:
بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم    
ولا سيما تيم بن مرة أو عدي
فما الأمر إلا فيكم وإليكم    
وليس لها إلا أبو حسن علي

أما واللّه لو شئتم يا بني هاشم لأملأنها عليهم خيلاً ورجالاً، فناداه علي ارجع يا أبا سفيان، فواللّه ما تريد اللّه بما تقول، وما زلت تكيد للإسلام وأهله.
ولما سمع أبو بكر تهويش أبي سفيان أسند بعض الوظائف لولده، فرضي وسكت، بل دعا للخليفة بالتوفيق والنجاح.
واجتمع ١٢ رجلاً من حزب علي، وتشاوروا بينهم في إنزال أبي بكر عن منبر الرسول، فقال قائل منهم: استشيروا علياً قبل أن تفعلوا، ولما استشاروه قال: لو فعلتم لأثرتم حرباً، ولأتى إليّ القوم، وقالوا: بايع، والا قتلناك.
لقد شعر حزب علي بالخيبة، وانتاب رجاله هزة عنيفة ارتعشت منها قلوبهم وأعصابهم، لصرف الحق عن أهله، والاستهتار بالدين، وأقوال سيد المرسلين، وإذا نهاهم الإمام عن حمل السلاح، وإعلان العصيان، ومجابهة الحاكم وجهاً لوجه فإن هناك سبيلاً آخر لمناصرة الحق، وهو الدعاية له، والعمل على نشره في جميع الأوساط، ومختلف الطبقات. وهذا ما حصل بالفعل، فكانوا - أينما حلوا - يوجهون الناس إلى علي، ويحدثونهم عن فضائله، ومكانته عند اللّه والرسول، ويؤكدون حقه في الخلافة، ويركزون دعايتهم هذه على كتاب اللّه وسنة نبيه، وهما أشد وسائل الدعاية تأثيراً في نفوس المسلمين، بل إن الدعاية مهما يكن نوعها لا تبلغ إلا عن طريق الدين، لأنها كانت يومذاك أساس الحياة، بخاصة الحكم والسلطان.
وقد انتشر الشيعة من الأصحاب في الأمصار على عهد الخلفاء الثلاثة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأكثرهم أو الكثير منهم تولى الإمارة والمناصب الحكومية في البلاد الإسلامية، ونذكر طرفاً من أقوالهم في هذا الباب.
كان سلمان الفارسي يحدث الناس، ويقول: بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين، والائتمام بعلي بن أبي طالب، والموالاة له. وقال: إن عند علي علم المنايا والوصايا، وفصل الخطاب، وقد قال له رسول اللّه. أنت وصييّ وخليفتي في أهلي بمنزلة هارون من موسى. أما واللّه لو وليتموها علياً لأكلتم من فوقكم، ومن تحت أرجلكم.


وفي الجزء السادس من البحار أن سلمان خطب إلى ابنته، فرده عمر، فقال له سلمان: أردت أن أعلم هل ذهبت الحمية الجاهلية من قلبك، أم هي كما هي؟
وكان أبو ذر ينادي في الناس، ويقول: عليكم بكتاب اللّه، والشيخ علي ابن أبي طالب. وكان يدخل الكعبة، ويتعلق بحلقة بابها، ويقول: أنا جندب بن جنادة لمن عرفني، وأنا أبو ذر لمن لم يعرفني، إني سمعت رسول اللّه (ص) يقول: إنما مثل أهل بيتي في هذه الأمة مثل سفينة نوح في لجة البحر، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق. ألا هل بلغت؟

وكان أبو ذر يسمي علياً بأمير المؤمنين في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، وكان يقف في موسم الحج، ويقول: يا معشر الناس أنا صاحب رسول اللّه، وسمعته يقول في هذا المكان، وإلا صمت أذناي : علي بن أبي طالب الصديق الأكبر. فيا أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها لو قدمتم من قدمه اللّه ورسوله، وأخرتم من أخره اللّه ورسوله لما عال ولي اللّه، ولا طاش سهم في سبيل اللّه، ولا اختلفت الأمة بعد نبيها.
وقال : قال رسول اللّه لعلي : أنت أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين، وأنت أخي ووزيري، وخير من أترك بعدي.
وقال عمار بن ياسر : يا معشر قريش إلى متى تصرفون هذا عن أهل بيت نبيكم؟.. تحولونه ههنا مرة، وههنا مرة، ما أنا آمن أن ينزعه اللّه منكم، ويضعه في غيركم، كما نزعتموه من أهله، ووضعتموه في غير أهله.
وحين بويع عثمان بن عفان دار نقاش بين المقداد بن الأسود، وبين عبد الرحمن بن عوف.
قال المقداد : ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت.
قال عبد الرحمن : ما أنت وذاك؟
قال المقداد : إني واللّه أحب هذا البيت لحب رسول اللّه، وإني لأعجب لقريش، وتطاولهم على الناس بفضل رسول اللّه، ثم انتزاعهم سلطانه من أهله.
قال عبد الرحمن : أما واللّه لقد أجهدت نفسي لكم.
قال المقداد : أما واللّه لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق، وبه يعدلون، أما واللّه لو كان لي على قريش أعوان لقاتلتهم قتالي إياهم يوم بدر وأحد.
قال عبد الرحمن : إني أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة.
قال المقداد : إن من دعا إلى الحق وأهله وولاة الأمر لا يكون صاحب فتنة. ولكن مَن أقحم الناس في الباطل، وآثر الهوى على الحق فذاك صاحب الفتنة والفرقة.
فتربد وجه عبد الرحمن، وانصرف.
وقال أبو هارون العبدي : كنت أرى رأي الخوارج، حتى جلست إلى الصحابي أبي سعيد الخدري، فسمعته يقول : أُمر الناس بخمس، فعملوا بأربع، وتركوا واحدة، فقال رجل : ما هذه الأربع التي عملوا بها؟ قال : الصلاة والزكاة والصوم والحج. فقلت : وما الواحدة التي تركوها؟ قال : ولاية علي بن أبي طالب(2)
وذكرنا في كتاب «مع بطلة كربلاء» أن الزهراء (ع) هي أول من أعلن حق علي في الخلافة بعد أبيها، أعلنت هذا الحق في خطبتها الشهيرة بالمسجد الجامع، وقالت تخاطب أباها في قبره، وتشكو إليه أمته :
قد كان بعدك أنباء وهنبثة    
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وإبلها    
واختل قومك فاشهدهم ولا تغب (3)

قام هؤلاء الأصحاب وغيرهم ممن تشيع لعلي في عهد الخلفاء الثلاثة بدور رئيسي في بث التشيع، وغرس جذوره وبذوره في كل أرض وطأتها أقدامهم، دعوا إلى التشيع على صعيد القرآن والحديث، وبذكاء ومرونة وطول أناة، وكانوا محل التعظيم والثقة عند الناس لمكانتهم من رسول اللّه، ومن هنا تجاوبت معهم القلوب والعقول، وكان لأقوالهم أثرها البالغ، ونتائجها البعيدة.
وقد تعرض بعضهم للإهانة والشتم والتشريد والضرب، كأبي ذر وعمار بن ياسر، ومع ذلك استمروا في بث الدعوة بصبر وشجاعة... ورحم اللّه عماراً، حيث يقول : واللّه لو ضربونا، حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على حق، وأنهم على باطل.
قرأت في كتاب «الإمام زيد» للشيخ أبي زهرة ص ١٠٧ طبعة أولى، قوله «نشأ الشيعة ابتداء في مصر، وكان ذلك في عهد عثمان، إذ وجد الدعاة فيها أرضاً خصبة، ثم عمت بعد ذلك أرض العراق».
أرسل المؤلف هذا القول، ولم يسنده إلى دليل، على أهميته من الوجهة التاريخية، فأخذت أبحث وأفتش، فرأيت في «أعيان الشيعة» ج ٤٢ ص ٢١٣ طبعة سنة ١٩٥٨ «أن عثمان بن عفان أرسل رجالاً يتحرون العمال، ومنهم عمار، أرسله إلى مصر، فعادوا يمتدحون الولاة إلا عماراً استبطأه الناس، حتى ظنوا أنه اغتيل، فلم يفاجئهم إلا كتاب من عبد اللّه بن أبي السرح والي مصر يخبرهم أن عماراً قد استمال القوم بمصر، وقد انقطعوا إليه، فكان تصريح عمار بالحق سبب اعتداء غلمان عثمان عليه، فضربوه، حتى انفتق له فتق في بطنه، وكسروا ضلعاً من أضلاعه».
هكذا كان الصفوة الخلص من أصحاب الرسول أجهزة الدعاية للتشيع يوجد حيثما يوجدون، وينبث حيثما يحلون، وسلاحهم الوحيد كتاب اللّه وسنّة نبيه... ابتدأ التشيع في مصر بسبب عمار، وفي الشام وتوابعها، كجبل عامل بسبب أبي ذر، حيث نفاه عثمان إلى هناك، وفي المدائن بسبب سلمان الفارسي، وفي الحجاز بسبب هؤلاء وغيرهم كحذيفة اليمان، وجابر بن عبد اللّه الأنصاري، وأبي بن كعب ومن إليهم، وقد ذكر السيد حيدر الآملي في كتاب «الكشكول فيما جرى على آل الرسول» أكثر من مائة صحابي كانوا يتشيعون لعلي بن أبي طالب، ويحفظون الأحاديث التي سمعوها من النبي في الولاية، وينشرونها في الأمصار الإسلامية.
وبهذا يتبين التحامل في قول من قال: إن سبب التشيع هو ابن سبا والفرس، وما إلى ذاك من الهراء والافتراء.
ـــــــــــ

1 - يعتمد المؤلف هنا على تاريخ الطبري، والإمامة والسياسة لابن قتيبة، وعلى ارشاد المفيد واحتجاج الطبرسي.
2- وبهذا اللفظ رويت اخبار كثيرة عن الامامين الباقر والصادق، ذكرها الكليني في كتاب «أصول الكافي».
3-  في البيت الأخير اقواء، وهو كثير في كلام العرب.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد