الشّهيد الثّاني
يقول الشّهيد الثّاني في أسباب قلّة المجتهدين:
«..والموجِبُ لهذِهِ الحَيرةِ ونزولِ هذه البليّةِ [عدم وجود المجتهد] إنّما هو تقاعُدُهم عن تحصيلِ الحقّ، وفُتورُ عزيمتِهِم، وانحطاطُ نفوسِهِم عن الغَيرةِ على صلاحِ الدّين، وتحصيلِ مداركِ اليقين، حتّى آلَ الحالُ إلى انتقاضِ هذا البِناء، وفَسادِ هذه الطّريقةِ السّواءِ، واندَرَسَتْ معالمُ هذا الشّأنِ بينَ أهل الإيمان، وقَلَّتْ أو عَدِمَتْ كُتُبُ الرّجالِ والحديثِ الّتي هي أُصولُ الشّريعةِ الغَرّاء، وشرطُ التّوصّلِ إلى تلك المرتَبةِ الزّهراء. حتّى أنّ الرّجلَ من فُضَلاء هذا العصرِ ربما انْقضى زمانُهُ، وفَنِيَ عمرُهُ، ومَضى دهرُهُ، وهو لم يَنْظُرْ في كتابٍ من كُتُبِ الحديثِ مثلِ (الكافي) و(التّهذيب) و(الفقيه) وغيرها، ولا سعى إلى تملُّكِهِ مع قدرته عليه، ولا رآه، بل كثيراً ما يكون شيخُه وشيخُ شيخِه بهذه المنزلة وعلى هذه الصّفة. فلو أرادَ الرّجلُ المُسْتَيْقِظُ الآن أنْ يَتَوَصّلَ إلى تحصيل هذه الأُصول لم يَكَدْ يَقْدِرُ عليها، مع الإجماع على أنّ كتابةَ هذه الأُصول ونظائرِها وحفظِها ومقابلتِها وتصحيحِها وضبطِها ونقلِها، من الواجبات الكفائيّة لتوقُّف الواجب، وهو التّفقُّهُ، عليها».
من التّقصير ينشأ القصور
«ومِن المعلوم أنّ الواجب الكفائيّ إذا لم يَقُمْ به أحد، تَوَجّبَ العِقابُ على جميع المكلَّفين، وكان في ذلك كالواجب العينيّ. فأينَ القلوبُ المستَيْقِظةُ؟! وأينَ الألبابُ المتَنَبّهةُ؟! وأينَ النّفوسُ المتوجّهةُ؟! وأيْنَ الهِمَمُ العالِيةُ؟! لِتَنوحَ على هذه البليّةِ، وتُكْثِرَ العويلَ على هذه الرَّزيّة، الّتي لا يَلْحَظُها إلا المتّقون، فـ: ﴿إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ﴾.
ومن هذا التّقصيرِ نَشَأ هذا القُصُورُ، ومن هذِهِ الغَفلةِ حَدَثَ هذا الفتورُ، وانْدَرَسَتْ مَعالِمُ الشّريعة في سائر الجِهات، وصارتِ الملَّةُ المصطفويّةُ في حَيّز الشّتات، وصار الأمرُ كما تَراه: يروي إنسانُ هذا الزّمانِ ما لا يَدْري معناه، ولا يَعْرِفُ مَن رَواه على نفسه، فليَبْكِ مَنْ ضاع عُمْرُه، وليس له إلّا النَّدامةُ والحَسْرةُ».
خمسمائة فقيهٍ في أقلَّ مِن عصرَينِ
يعقد الشّهيد الثّاني مقارنة بين عصورٍ خَلَتْ كان فيها الفقهاء من الكثرة بما لا تحصيهم الأقلام، أمّا في زمانه، فقد ندر الفقيه المجتهد لِفتور الهمّة في تحصيل العلوم الدّينيّة المتقدّمة، وقلّة التّديُّن والتّقوى؛ وفي هذا يقول:
«وقد كان الأمرُ قبلَ ذلك على حالةٍ تَضِيق الأوراقُ ببيانها، والأوقاتُ في تحقيق شأنها، حتّى أنّ رجلًا من ذُرّيّة الصّدوق ابن بابويه، هو ولد تلميذ الشّيخ أبي جعفر الطّوسيّ، قَدّسَ اللهُ سرّه، اسمُه عليّ بْنُ عُبيدِ الله بنِ الحسنِ بنِ بابويه، جَمَعَ كتاباً في أسماءِ علماءِ الشّيعة الّذين تأخّروا عن الشّيخ أبي جعفرٍ الطّوسيّ إلى زمانه، ليكون تكمِلةً لفهرست الشّيخ، جَمَعَ فيه ما يَزِيد على خمسمائة فقيهٍ في أقلَّ مِن عصرينِ، وأكثرُهُم أصحابُ مصنّفاتٍ عِظامٍ وعلماءُ أجِلّة أعلام. ومَن تَأمّلَ زمانَهم ووَقَفَ على سِيرهم يَعْلَمُ أنّ توفيقهم ما كان أكثرَ مِن توفيقِ أهل زماننا. وإنّما أوجَبَ التّخلُّفَ عنهم قصورُ الهمّة وعدمُ الدِّيانة، وأوجَبَ هذه البلوى قِلَّةُ التّقوى. فكيف لا تَتَوجّهُ المؤاخَذَةُ، ونَسْتَحِقّ نزولَ البليّة، ونَسْتَوجِبُ بُطلانَ العِبادة؟ إنْ لم يَتَدارَكْنا اللهُ سبحانَه بفضله ورحمته وجُودِه وكرمه».
الإعراض عن العلم الدّينيّ والاقتصار على العلوم المستحدَثة
«وأعْظَمُ مِن هذا مِحْنَةً، وأكبرُ مصيبةً، وأوجَبُ على مرتكِبِه إثماً، ما يتداوَلُه كثير من المُتّسِمينَ بالعلمِ ".." حيث يصرِفُون عمرَهُم ويَقْضون دهرَهُم في تحصيل علومٍ [لا طائلَ منها وحدَها] على وجهٍ لو صَرَفوا جزءاً منه على تحصيلِ العلمِ الدّينيّ، الّذي يَسألُهُمُ اللهُ تعالى عنه يومَ القيامةِ سؤالًا حثيثاً، ويُناقِشُهُم على التّفريط فيه نِقاشاً عظيماً، لحَصّلوا ما يجِبُ عليهم من علمِ الدّين. ثمّ هم مع ذلك: ﴿...يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ الكهف 104، بل يَزْعُمونَ أنّ ما هم فيه أعظمُ فضيلةً وأتَمّ نفعاً. وذلك عينُ الخِذلانِ من الله سبحانه والبُعدِ عنه. بل الانسلاخُ من الدّين رأساً أنْ يُحْيِيَ من يَزْعُمُ أنّه مِن أتْباع سيّد المرسلين محمّدٍ وآله الطّاهرين دينَ [غيره] ".. ويُهْمِلَ الدّينَ الّذي دانَ اللهُ به أهلَ الأرضِ والسّماء. نعوذ بالله من هذه الغَفلةِ ونَسألُه العفوَ والرّحمةَ».
استنهاض الهِمَم
ثمّ يستنهض الشّهيد الثّاني هِمَم الطّلبة والعلماء فيقول:
«فاسْتَيْقِظُوا أيّها الإخوانُ من رَقْدَتِكُم، وأفِيقُوا من سَكْرَتِكُم، وتَلافُوا تَفْريطَكُم في أيّامِ هذه المُهلة قبلَ حلول المَنيّة ونزولِ البَليّة، وقبلَ أنْ تُسْألَ الإقالةُ ولاتَ حينَ مقيلٍ، وتَطْلُبون الرَّجْعةَ ولا يوجَدُ إليها سبيل، قبلَ: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله وإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ الزّمر:56-57.
وإيّاكم أنْ تَغُرّكم النّفسُ الأمّارَةُ المُحِبّةُ للكَسَلِ والخَسارةِ، وتقولَ لكم: إذا كان في الاشتغالِ بالفقهِ هذا الخطرُ العظيمُ وأبوابُهُ مسدودَة في هذا الزّمان، ورجالُهُ قليلة في هذا الأوان، وطُلَّابه قليلة الأنصار والأعوان، وتحصيل المرتَبة الصّالحةِ قد عَزّ إليها المثال، وفي ما دونها من المرتَبة ما ذكرتَ من الأهوال، فالاشتغالُ بعبادة الله تعالى أوْلى دُنيا، وأحْرى وأحوطُ للمتّقين دِيناً».
العلم هو العبادة
«ما هذه والعياذُ بالله إلَّا خَطْرة رديّة، وغرورات نفسانيّة، ومَكايدُ شَيطانيّة، وإلَّا فأينَ لنا البِناء على غير أساسٍ، والمَشْيُ في ظلمة الدّين بغير مِقْباسٍ؟ وكيف تكون العِبادَةُ صحيحةً مع ما قد عَدَدْناه من الخطرات؟! وكيف تصِحّ العِبادةُ مع تَرْكِ هذه الفرائضِ الواجبات؟! وكيف تَقْصُرُ هِمّةُ العاقل على اكتسابِ فَلْسٍ إنْ حَصَلَ، وهو قادر على اكتساب نفائس الجواهر؟! وكيف لا يخافُ اللهَ من قَصّرَ مع وقوفِهِ على هذا الدّليلِ الباهر؟! وأين مرتَبة العِبادة الخالية عن العلمِ من العلم الذي هو عبادة؟! بل هو روح العبادة، بل العلمُ المُخْلَص علم وعبادة على تقدير سلامةِ العِبادة. فلو لم يَقْصِدِ العاقلُ لِنفسِهِ تحصيلَ منفعةٍ بالعلم، فليقصِدْ دفعَ المَضَرّة، فإنّ دفع المَضَرّةِ أوْلى من جلبِ النّفع، كما هو من المقدّماتِ المتّفقِ عليها. كيف وقد ورد في ثوابه ما قد أغنى عن التّدوين والإظهار، لمزيدِ الاشتهار. وقد روينا بإسنادنا إلى مولانا وإمامنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه أنّه قال:
«مَنْ كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا، فأخْرَجَ ضُعَفاءَ شيعتِنا من ظُلْمَةِ جهلهم إلى نور العلم الذي حَبَوْناه به، جاء يومَ القيامة على رأسه تاجٌ من نور يُضِيءُ لأهل جميع العَرَصات. وعليه حُلَّة لا تَقومُ لأقلّ سِلْكٍ منها الدنيا بحذافِيرِها، ويُنادي منادٍ: هذا عالِمٌ من بعض تلامذة علماء آل محمّد، ألا فمنْ أخْرَجَهُ من ظُلمة جهله في الدُّنيا فَلْيَتَشَبّثْ به يُخْرِجْه من حَيْرَةِ ظُلْمَةِ هذه الْعَرَصاتِ إلى نُزهِ الجِنان، فَيَخْرُجُ كُلّ من كان عَلَّمَه في الدنيا خيراً، أو فَتَحَ عن قلبه من الجهل قُفْلًا، أو أوضَحَ له عن شُبهَة».
وعن مولانا العسكريّ عليه السّلام: «أشدّ من يُتْمِ اليتيمِ، يتيمٌ انْقَطَعَ عن إمامه ولا يَقْدِرُ على الوصول إليه، فلا يَدْري كيف حُكْمُه في ما ابْتُلِيَ به من شرائعِ دينِهِ، ألا فَمَنْ كان من شيعتنا عالماً بعلومنا، فَهَدى الجاهِلَ بشريعتنا كان معنا في الرّفيق الأعلى».
النّيّة الصّحيحة والقلب السّليم
«وعِماد ذلك كلَّه ومِلاكُه تصحيح النّيّة، وإخلاص الطّوِيّة، وتوجيهُ المَقاصدِ نحوَ المحبوبِ. فليست المعاملةُ إلّا بالقلوب، فإنّ الله تعالى لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكم، وإنّما يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكم.
رَزَقَنا اللهُ تعالى وإيّاكم نَيْلَ هذه المرتَبةِ، وحَلانا بأنوار هذه المنقبةِ، وجَعَلَ ما بَقِيَ من أيّام هذه المُهْلَة على الخيراتِ موقوفاً، وعن البَليّات مصروفاً، وأيْقَظَنا من سِنةِ الغافلين، وأخْرَجَنا عن عِداد الجاهلين إنّه أكْرمُ الأكرمينَ وأجْودُ الأجودينَ.
وها أنا قد أدّيْتُ الأمانةَ حَسبَما أُمِرتُ، وما أرَدْتُ: ﴿... إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وما تَوْفِيقِي إِلَّا بِالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ هود:88.
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع
أمسية للشّاعرة فاطمة المسكين بعنوان: (تأمّلات في مفهوم الجمال بين الشّعر والفلسفةِ)
العظات والعبر في نملة سليمان
الكوّاي تدشّن إصدارها القصصيّ السّادس (عملاق في منزلنا)
اكتشاف أقدم أبجديّة معروفة في مدينة سوريّة قديمة