من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

الشريف الرضي في مجالس المجون!! (2)

ثانياً: إننا إذا رجعنا إلى شعر الشريف الرضيّ؛ فإنّنا نجد الدلائل العديدة، التي تجعل قبول رواية الحصري، أمراً صعباً، وحتى مرفوضاً وفق المعايير العلميّة، المقبولة.. فنحن نشير في هذا المجال إلى الأمور التالية:

أ - قال الشيخ عبد الحسين الحلي: «إنّنا نعتقد أنّه لم يجالس الخلعاء والظرفاء، الذين يستخفون بالنواميس في أيام شبيبته. وأنّه لذلك لم يصرف شيئاً من شعره في فنون المهازل والمجون؛ فإنّ هذا يدلّنا على أنّه لم يعمل ما يعتذر عنه، ولا يصانع أحداً ستراً على نفسه، ولذا نجده، وهو بمرصد من أعدائه، لا يحفل أن يجاهر بمثل قوله: عف السرائر لم تلط بريبة، يوماً على معالقي وسجوفي.. وقوله: أنا المرء لا عرضي قريب من العدا، ولا فيّ للباغي عليَّ مقال» (1)

ب - إنّنا نجده «رحمه الله» يقول عن نفسه: وإنّي لمأمون على كل خلوة، أمين الهوى والقلب والعين والفم، وغيري إلى الفحشاء إن عرضت، له أشدّ من الذؤبان عدواً على الدم..

ج - وحين يخبر عن نفسه «رحمه الله»، بأنّه قد طلّق الدنيا، حيث يقول: ما لي إلى الدنيا الغرورة حاجة، فليخز ساحر كيدها النفاث، سكناتها محذورة وعهودها، منقوضة وحبالها أنكاث، طلقتها ألفاً لا حسم داءها، وطلاق من عزم الطلاق ثلاث... نجد مهيار الديلمي يؤكد على صحة هذا الطلاق، وواقعيته فيقول في مرثيته له: أبكيك للدنيا التي طلقتها، وقد اصطفتك شبابها وعرامها، ورميت غاربها بفضلة معرض، زهداً وقد ألقت إليك زمامها.. وفي نص آخر: ورميت غاربها بفتلة حبلها.. الخ...

د - وقد قالوا عن شعر الشريف الرضيّ «رضوان الله تعالى عليه» الشيء الكثير، وهذه بعض النماذج التي لا بدّ من ملاحظتها في هذا المجال..

 

1 - «ليس له شعر في الهجاء، يشبه هجاء الشعراء، الذين كانوا يهجون بقبيح القول، والألفاظ الفاحشة.. فالشريف إن وجد في شعره ما يشبه الهجاء؛ فهو بألفاظ نقيّة الخ..» (2).

2 - «ولم يكن يخرج من فم هذا الرجل النبيل حقيقة كلمة واحدة من الكلمات القبيحة، التي يتلفظ بها العامّة، التي نجد مثلها عند إبراهيم الصابيّ، صاحب ديوان الرسائل، وعند الوزير المهلّبي، وعند الوزير ابن عبّاد.. وإذا كان غيره من الشعراء قد استباحوا لأنفسهم في الذّم كل قبيح؛ فإنّنا لا نجد للشريف الرضيّ في باب الهجاء، أقوى من ذمّه لمغن، بارد، قبيح الوجه: تغفى بمنظره العيون إذا بدا، وتقيء عند غنائه الأسماع، أشهى إلينا من غنائك مسمعاً، زجل الضراغم بينهن قراع» (3).

ونحن نلاحظ هنا: أنّه حتى في هذا المورد، قد نزع إلى التغنيّ بما تهفو إليه نفسه، ويشدّه إليه طموحه ووجده، ألا وهو معالي الأمور وعظائمها، وجلائل المرامي وكرائمها، ممّا لا ينال إلا بركوب الأهوال، ومقارعة الضراغم والأبطال، كما صرّح به في شعره الآنف الذكر..

3 - وفيما يرتبط بغزل الشريف الرضيّ «رضوان الله تعالى عليه»، نجدهم يقولون: «لم يزل زلّة واحدة، ولم ينحرف به الطريق عن العفّة، والشرف، والخلق الرفيع في هذا الباب» (4).

يقولون أيضاً: « ..والذي نقرؤه من مجموعتي أخلاقه، وشعره: ترفّعه عن نوع من الغزل، يستعمله الخلعاء، أو ما يشبه العبث والمجون. وهذا النوع، قد لا تطاوعه شاعريته عليه لو أراده، وهو الذي يخل بمقامه وشرفه..» (5).

وأما فيما يرتبط بوصفه للخمرة، ومجالس الغناء، وما أشبه ذلك؛ فيرى المحققون: أنّنا «إذا تحققنا أنّ الشريف، لم يشرب، ولم يسمع، ولم يجالس أرباب اللهو والمهازل، ولم يتخذ الندمان ولم يستعمل الملاهي؛ فإنّنا نعذره في الأوصاف، سيّما ما يكون منها مقترحاً عليه، لأنّها تقع في زمنها لأسباب مجهولة، لا يصح الحكم عليها بشيء. والوصف بمجرده، لا يقدح بصاحبه، وإن أظهر بمظهر الحاضر المشاهد..» (6).

وكذلك هم يقولون: « ولا يليق أن نمدح الشريف الرضيّ بأنّ شعره خال من المجون، الذي كان شائعاً في ذلك العصر؛ فهو أجلّ قدراً، وأرفع شأناً من أن نمدحه بذلك.. كما أنّ شعره خال من وصف الخمرة، وإن وصفها كثير من الشعراء الذين لا يتعاطونها. لكن الشريف لم يصفها إلا بسؤال من سأله ذلك، على لسان بعض الناس؛ فوصفها بعدّة أبيات لم يصفها بغيرها..» (7).

وقالوا أيضاً: « لم ير في شعر الرضيّ وصف الخمر، وحين وصفها بقوله: راح يحول شعاعها، بين الضمائر والعقول.. ذكر في مقدمتها: أنّه سئل القول في ذلك. وكذلك حين ذكر الخمر مقدمة لقصيدته في الغزل، ووصف الروض، وكانت من أول قوله؛ فقال: اسقني فاليوم نشوان، والربى صاد وريّان... ذكر في مقدمتها أيضاً: أنّه قالها على لسان بعض الناس، مما يشعر بتحرجه من ذلك..» (8).

وأخيراً.. فإنّنا حين نسمع الشريف الرضيّ «رحمه الله» يقول: واعرض عن كأس النديم كأنّها، وميض غمام غائر المزن خلب... وقوله: وقور فلا الألحان تأسر عزمتي، ولا تمكر الصهباء بي حين أشرب... فإنّنا نعرف: أنّ ذلك ما هو إلا استرسال شاعر، لا يمكن أن يريد به معناه الحقيقي المطابقي أبداً.. وإنّما يريد به التأكيد على لازم المعنى ليس إلا.. ثمّ هو يتبع ذلك بقوله: ولا أعرف الفحشاء إلا بوصفها، ولا أنطق العوراء والقلب مغضب..

 

الخلاصة الأخيرة

وبعد كل ما تقدّم نقول: إنّه إذا كان السيد الشريف «رضوان الله تعالى عليه»، يتحاشى حتى عن إيراد الكلمات النابية حتى وهو في مقام الهجاء في شعره.. وإذا كان يترسم طريق العفة والشرف والكرامة، ولا يجيز لنفسه أن يصدر منه شيء ممّا تعاطاه الشعراء، حتى أهل النبل والكرامة منهم، وإذا كان يربأ بنفسه عن وصف الخمرة، ومجالس اللهو والغناء - إذا كان كذلك - فإنّنا لا نستطيع أن نتصوره مشاركاً في تلك المجالس، أو ممعناً في تناول النبيذ، الذي يعتقد حرمته تديناً، وهو الرجل الورع الزاهد، والنزيه الجليل، الشريف النفس عالي الهمة، لا سيما وهو يعلم أنّ هذه المجالس وتلكم الأحوال، لا تخلو من صدور شيء مما يتنافى مع الشرف والكرامة والسؤدد.. وهكذا فإنّنا نجد أنفسنا مضطرين لقبول قول بعض الباحثين: إنّه رحمه الله: «لم يجالس الخلعاء والظرفاء الذين يستخفّون بالنواميس في أيام شبيبته..» (9).

ويقول: «..ولم يكن حتى في إبان شبيبته يسامر الظرفاء، الذين يغازلون ويتغزلون..» (10).

ويقول: «..ونحن لتلك العزّة، وتلك المروءة والأنفة، نذعن لآخر نظرة، أنّه لم يقترف مأثماً..» (11).

ثالثاً: قال الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو (12): «..وكان الرضيّ شديد النكير على من يشرب النبيذ. وقد نفى خبراً جاء في (مختصر الكرخي) مفاده: أنّ عبد الرحمن بن أبي ليلى شرب نبيذاً عند عليّ بن أبي طالب (رض)». وقال في التعقيب عليه: «..ولأنّ المعلوم الظاهر، والمنقول المتداول: أنّ أمير المؤمنين، والأخيار من ولده «عليهم السلام»، لم يزنّوا قط بمثل هذه الفعلة، ولا عرفوا بهذه الخلة» (13).

فكيف يخرج نفسه عن زمرة هؤلاء الأخيا ؟ وقد التزم الرضيّ هذا الخلق الصارم منذ شبيبته، وأعلنه في أوائل ما قال من الشعر الخ.. ثمّ يذكر نماذج من شعره الدال على ذلك..

ورابعاً: يقول المعتزلي الحنفي، وغيره: «حدثني فخار بن معد الموسوي، قال: رأى المفيد في منامه، كأنّ فاطمة بنت النبي دخلت إليه، وهو في مسجد بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين «عليهما السلام» صغيرين فسلمتهما إليه، وقالت: علمهما الفقه، فانتبه متعجباً. فلمّا تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة دخلت إلى المسجد، فاطمة بنت الناصر، وحولها جواريها، وبين يديها ابناها: محمد وعليّ، الرضيّ والمرتضى، صغيرين، فقام إليها وسلّم. فقالت: أيها الشيخ، هذان ولداي قد أحضرتهما إليك؛ لتعلمهما الفقه. فبكى المفيد، وقصّ عليها المنام، وتولّى تعليمهما، وفتح الله عليهما من العلوم، ما اشتهر في الآفاق» (14).

إلا أنّ لنا على هذه الرواية ملاحظة، وهي:

أنها تذكر:

أ - أنّ الرضيين «رحمهما الله تعالى»، كانا حين جاءت بهما أمهما إلى الشيخ المفيد صبيين صغيرين..

ب - أنّ أم الرضيين «رحمهما الله تعالى»، قد خاطبت المفيد «رحمه الله»، بقولها: «أيها الشيخ»، مع أنّ المفيد قد توفي سنة 413 ه‍ . عن سبعة وسبعين عاماً، وقد كانت ولادة المرتضى «رحمه الله تعالى» في سنة 355 ه‍، وولادة الرضيّ «رحمه الله» كانت في سنة 359 ه‍.

ومعنى ذلك: أنّ عمره «رحمه الله تعالى» حين ولادتهما كان 20 أو 23 عاماً فلو أنّها أتت بهما إليه، وعمرهما عشر سنوات، أو ثلاث عشرة سنة لكان عمر المفيد آنئذٍ ما بين الثلاثين والخمس وثلاثين عاماً. ومعنى ذلك: أنّه «رحمه الله» قد كان في عنفوان شبابه، فلا يصحّ منها مخاطبته ب‍ «أيها الشيخ»!! إلا أنّ الحقيقة هي: أنّ ما تقدّم لا يضرّ في صحة مخاطبتها له بذلك؛ إذ إنّ المراد ب‍ «الشيخ» هو شيخ التعليم. وأيضاً، فقد لقّب المفيد بالشيخ المفيد، وهو في عنفوان شبابه، فيمكن أن تكون قد جرت في مخاطبتها له على مقتضى هذا اللقب الذي عرف به.. هذا إن لم نقل: إنّ هذه الكلمة مقحمة من قبل الناقلين، اجتهاداً منهم.

 

الحسد والبغي هما الداء الدوي

ومهما يكن من أمر فإنّنا بعد تلك الجولة الطويلة، لنقطع بأنّ رواية كوران المغني، لا أساس لها من الصحة ولعلها من وضع واختلاق حسَّاد الشريف، الذين لم يشف ما في صدورهم موت هذا الرجل الفذ والنابغة العبقري حتى راحوا يحسدونه حتى على ما يرثيه به الشعراء وتجود به قرائحهم. فنجدهم يعيبون عليهم رثاءهم له بما يظهر سموّه، ونبله وعظمته وتميّزه..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مقدمة حقائق التأويل، ص 50 / 51.

(2) أعيان الشيعة، ج 9 ص 220.

(3) الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجريّ، ج 1 ص 505 و 506.

(4) أعيان الشيعة، ج 9 ص 223.

(5) حقائق التأويل، المقدمة للشيخ عبد الحسين الحلّي، ص 106.

(6) المصدر السابق، ص 53 .

(1) أعيان الشيعة، ج 9 ص 217.

(8) ديوان الشريف الرضيّ، مقدمة الدكتور الحلو، ص 32.

(9) حقائق التأويل، المقدمة، للشيخ عبد الحسين الحلّي، ص 50.

(10) المصدر السابق، ص 107.

(11) المصدر السابق، ص 50.

(12) ديوان الشريف الرضيّ، مقدمة الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، ص 32.

(13) حقائق التأويل، ص 347 / 348.

(14) شرح النهج للمعتزلي الحنفي، ج 1 ص 41 وأعيان الشيعة، ج 9 ص 216 وقاموس الرجال، ج 8 ص 147، ورجال أبي علي ص 292، ترجمة المفيد، ورجال السيد بحر العلوم ج 3 ص 134 / 135، والغدير ج 4 ص 184 عن المعتزلي، وعن صاحب الدرجات الرفيعة.

 

 

 

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد