قامت الزهراء عليها السلام بالاقتباس من آيات القرآن الكريم في عملٍ بلاغيٍ لا نظير له، لأن الاقتباس درجات؛ أعلاها ما إذا كان الكلام المأخوذ من القرآن الكريم يجري مع كلام المتكلم، بحيث أنك للوهلة الأولى تظنه من عبارة المتكلم.
نقول للوهلة الأولى وإلا فإن بلاغة القرآن، وإعجاز كلماته وتراكيبه لا يصل إليها كائن من البشر بمن فيهم الأنبياء والأوصياء، بل ما لديهم من بلاغة هو ظلال لذلك الأصل، وفرع من تلك الشجرة.
سوف نلاحظ أن مساحة الاقتباس التي مرت عليها سيدة النساء واسعة حيث تمددت اقتباساتها على اثنتي عشرة سورة، فقد اقتبست من آل عمران ومن فاطر والتوبة والمائدة والكهف وابراهيم والشعراء وسبأ وهود والهمزة، واختصت التوبة بأكثر من اقتباس ولا غرابة فإن سورة التوبة من أسمائها الفاضحة.
ونشير إلى أن هناك اختلافًا بين الاقتباس من القرآن والاستدلال بآياته، فبالرغم من اجتماع هذين الأمرين في خطبة الزهراء عليها السلام إلا أن بينهما فرقًا، فإن الاقتباس هو جانب بلاغي وأدبي يجعل المقتبِسُ النص المقتبَسَ وكأنه جزء من كلامه، ويوصله به حتى يغدو أشبه بالنسيج الواحد... وأما الاستدلال فهو أن يأتي المتحدث بنص يستفيد منه في الاستدلال ويتكئ عليه في إثبات مطلبه من غير التزام بأن يتسانخ في اللفظ مع لفظ المستدل. كاستدلال الزهراء بآيات الميراث بشكل عام أو في خصوص وراثة الأنبياء.
بعد كل هذا لا بد أن نشير إلى أن كل ما سنأتي به وهو جزء بسيط من جهات البلاغة الفاطمية كان في ظرف معاكس لوضع السيدة الزهراء عليها السلام، فإنها في ذلك الوقت لتوها قد فقدت أباها رسول الله، ومن يبتلى بمصيبة بهذا النحو يتأثر عادة في تركيز كلامه وبديع نظامه، كما أنها تعيش أزمة الاعتداء على منصب وموقع زوجها أمير المؤمنين عليه السلام وإبعاده عن الخلافة وقيادة الناس، وهي إلى ذلك تخطب في المسجد بين الرجال وإن كانت هناك ملاءة قد جعلت بينها وبينهم.
ولنعود إلى أصل الموضوع نقول: وُجد في خطبة الزهراء عليها السلام اثنا عشر اقتباسًا من القرآن الكريم بعضه آية أو جزء من آية وربط بنحو تظنه كلامًا واحدًا. ولعل هذا هو الذي خفي على البعض عندما زعم بعضهم بأن هناك خطأ في دعاء أبي حمزة الثمالي، وبالغ بعض المخالفين عندما قال إما أن يكون هذا الدعاء غير صحيح الانتساب للسجاد أو أنه لم يكن حافظًا للقرآن! قالوا إن هناك آية في الدعاء {واسألوا الله من فضله إن الله كان [بكم رحيما]} ولا توجد آية في القرآن هكذا إنما الآية الموجودة {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}[1] والجواب: أنهم لو كانوا يعرفون معنى الاقتباس في أساليب الخطاب باللغة العربية ما كان لهم أن يعترضوا بهذا الاعتراض!
وتفصيل الجواب:
أن هاتين آيتان، ولشدة المناسبة بينهما ألصقهما في الدعاء، وفي الكتابة يتبين ذلك بوضوح عندما يقوم الكاتب بفتح قوس للآية الأولى ثم يغلقه ويفتح قوسًا للآية الأخرى فهنا يتبين الأمر بوضوح لكن الأمر ليس كذلك عندما يكون الدعاء بصورة القراءة، فلا يمكن للداعي أن يقول مثلًا: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} (نغلق القوس) ثم يقول (نفتح قوسًا جديدًا) ويقرأ الآية الثانية! ولكن من يعرف قانون الاقتباس وشدة المناسبة بين الفقرتين يعرف لماذا ألصقهما الداعي أو المتحدث!
الآية في سورة النساء {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}[2]، وفي آية أخرى قبلها {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[3]، وذيل الآية الأولى {إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} لا يتناسب مع مسار الدعاء، الدعاء يحتاج إلى ماذا؟ يحتاج إلى فضل ورحمة لذلك جاء بذيل الآية السابقة على طريقة الاقتباس والإلصاق، فاستفاد من الآية الأولى من مقطعها الأول ومن الآية الثانية من مقطعها الثاني وسيأتي أمثاله في خطبة الزهراء عليها السلام .
هاتان فقرتان من آيتين ولكن سياق الحديث جعلهما هكذا لا أن هذه آية واحدة، ولو أن الإمام زين العابدين عليه السلام جاء بالآية {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}، لا ينسجم مع حالة الاسترحام والاستعطاف في الدعاء الموجود.
الاقتباس الأول:
«وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبيّة فـ {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}»[4].
بعد هذه المقدمة القصيرة، فلنرَ الآن كيف اقتبست فاطمة الزهراء عليها السلام العديد من الآيات المباركات من ذلك فذكرت أول شيء «وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبيّة فاتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون»، فإن مقتضى الإخلاص لله بالربوبية أمران: أن تكون كيفية العمل بما يؤدى فيه حق الله تعالى، فالتقوى ينبغي أن تكون حق تقاته، والجهاد ينبغي أن يكون حق جهاده، وهكذا والآخر أن يستمر المؤمن على ذلك فلا يكفي أن يقوم بهذا الأمر لمرة واحدة أو في شهر واحد وإنما أن يستمر عليه حتى يضمن أن لا يأتيه الموت إلا وهو مسلم.
الاقتباس الثاني:
«وأطيعُوا اللهَ فيما أمَرَكُمْ بِهِ وَنَهاكُمْ عَنْهُ، فَإنَّه {إنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ العُلِماءُ}»[5].
ويعلم القارئ الكريم أنه تم تقديم لفظ الجلالة (الله) مع أن اللفظ في موضع المفعول به وهو مؤخر لاقتضاء الحصر والقصر ذلك، فلو قالت الآية المباركة إنما يخشى العلماءُ الله لما أفاد نفس المعنى المطلوب فيه القصر، فغاية ما تثبت هذه الجملة أن العلماء يخشون الله، لكن هل يخشاه غيرهم أو لا فإن الجملة هذه لا تتعرض له، ولا تؤدي نفس المعنى، مع أن المطلوب في الآية المباركة هو القول أن خشية الله فرع عن العلم به فمن لا يكون عالـمًا بالله تعالى لا يخشاه ولا يخافه، وبمقدار ما يعلم به يخشى ويخاف ويتقي.
وفيما يرتبط بالخطبة فإن الصديقة الطاهرة فاطمة قد طوت مقدمة هي أنكم بتبليغ النبي الرسالة وجهاد الوصي في سبيلها قد أصبحتم عالمين بربكم عارفين بواجباته عليكم وبنواهيه لكم، فيقتضي هذا أن تستجيبوا بالعمل وأن تخشوه حق الخشية لأنه إنما يخشى اللهَ العلماءُ به والعارفون بعظمته والواعون بواجبهم تجاهه.
الاقتباس الثالث:
«اعْلَمُوا أنِّي فاطِمَةُ، وَأبي مُحمَّدٌ صلى الله عليه وآله، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً، وَلا أقُولُ ما أقُولُ غَلَطاً، وَلا أفْعَلُ ما أفْعَلُ شَطَطاً {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيم}»[6].
في تعريفها صلوات الله عليها لنفسها، وتوجيهها لفعلها وخطبتها ومحتوى تلك الخطبة، فهي تخبرهم أنها فاطمة بنت النبي، حتى يستذكر المهاجرون والأنصار أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله في حقها، والفرض أنهم لا يزالون يتذكرونها، وحتى لا يتوهم بعض الحاضرين آنئذ أنها لا ينبغي أن تخرج أو تخطب، بل حتى لا يتخرص بعض أتباع مدرسة الخلفاء في المستقبل في تخطئتها وهي التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها فقد استبقت كل هذا وقالت: إنها تقول ذلك عودًا وبدءًا، وإن ما تقوم به من الاحتجاج عليهم ليس عملًا خاطئًا وأن كلامها ليس غلطًا.
في هذه الحالة أكملت كلامها بآية مباركة وقد جاءت شديدة المناسبة حتى يتصور السامع لأول مرة أنها جزء من الكلام {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيم}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). سورة النساء: آية 32
(2). المصدر السابق.
(3). النساء:29
(4). سورة آل عمران: آية 102
(5). سورة فاطر: آية 28
(6). سورة التوبة: آية 128
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ
الوصول إلى حالة الانغماس وقياس مستواها
هل يمكن إثبات المعجزة علميًّا؟ (2)
أزمة العلمانية مع الإسلام
تفسير القرآن الكريم بمعناه اللّغوي
البسملة