أ: البديل الأنسب
إن من الواضح: أن هؤلاء (المهاجرون) الذين أسلموا قد انفصلوا عن قومهم، وعن إخوانهم، وعن عشائرهم بصورة حقيقية وعميقة، وقد واجههم حتى أحب الناس إليهم بأنواع التحدي والأذى؛ فأصبحوا وقد انقطعت علائقهم بذوي رحمهم وصاروا كأنهم لا عصبة لهم، وقد يشعر بعضهم أنه قد أصبح وحيداً فريداً، وبلا نصير ولا عشيرة، فجاءت الأخوة الإسلامية لتسد هذا الفراغ بالنسبة إليهم، ولتبعد عنهم الشعور بالوحدة، وتبعث في نفوسهم الأمل والثقة بالمستقبل.
ب: السمو بالعلاقات الإنسانية
لقد أريد للمسلمين المؤمنين أن يكونوا إخوة، وذلك بهدف السمو بعلاقات هذا الإنسان عن المستوى المصلحي وجعلها علاقة إلهية خالصة تصل إلى درجة الأخوة، وليكون أثرها في التعامل بين المسلمين أكثر طبيعية وانسجاماً، وبعيداً عن النوازع النفسية، التي ربما توحي للأخوين المتعاونين بأمور من شأنها أن تعقد العلاقات بينهما ولو نفسياً على أقل تقدير.
ورغم أن الإسلام قد قرر ذلك، وأكد على أن المؤمن أخو المؤمن أحب أم كره، وحمله مسؤولية العمل بمقتضيات هذه الأخوة، إلا أنه قد كان ثمة حاجة إلى إظهار ذلك عملياً، بهدف توثيق عرى المحبة وترسيخ أواصر الصداقة والمودة كما هو معلوم، وليكون الهدف السامي قد انطلق من العمل السامي أيضاً.
ج: دور المؤاخاة في بناء المجتمع الجديد
لقد كان الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» بصدد بناء مجتمع جديد، يكون المثل الأعلى للصلاح والفلاح، قادراً على القيام بأعباء الدعوة إلى الله، ونصرة دينه، في أي من الظروف والأحوال. مع واقع وجود الفوارق الكبيرة بين المهاجرين أنفسهم، والأنصار أنفسهم، والمهاجرين والأنصار معاً ـ الفوارق ـ الاجتماعية، والقبلية، والثقافية، والنفسية، والعاطفية، وحتى العمق العقيدي ومستوى الالتزام، فضلاً عما سوى ذلك، هذا بالإضافة إلى الظروف النفسية والمعيشية التي كان يعاني منها المهاجرون بالخصوص.
ومع ملاحظة حجم التحدي، الذي كان يواجه هذا المجتمع الناشئ الجديد، سواء في الداخل: من الخلافات بين الأوس والخزرج، الذين كان الكثيرون منهم لا يزالون على شركهم، ثم من المنافقين، ومن يهود المدينة.
ومن الخارج: من اليهود، والمشركين في جزيرة العرب، بل والعالم بأسره.
ومع الأخذ بنظر الاعتبار عظم المسؤولية التي يتحملها هذا المجتمع في صراعه من أجل إقامة هذا الدين الجديد والدفاع عنه.
مع ملاحظة كل ذلك، وحيث أصبح من المفترض بهذا المجتمع أن يكون بمثابة كتلة واحدة متعاضدة، ومترابطة، بعد أن كانوا أحزاباً وجماعات وأفراداً فكان لا بد من إيجاد روابط وثيقة تشد هذا المجتمع بعضه إلى بعض، وبناء عواطف راسخة، قائمة على أساس عقيدي، تمنع من الإهمال ومن الحيف على أي فرد من أفراد هذا المجتمع الجديد بحيث يكون الكل مشمولين بالرعاية التامة، التي تجعلهم يعيشون الحب والحنان بأسمى وأجل معانيه، كما أنها تمنع من ظهور تلك الرواسب النفسية، والعقد التاريخية ـ بل وتقضي عليها تدريجاً ـ بين أفراد هذا المجتمع، الذي أصبح أفراده مأخوذين بالتعامل مع بعضهم البعض، الأمر الذي يجعل خطر ظهورها ـ لأتفه الأسباب ـ أشد، وتدميرها أعظم وأوسع.
وكانت تلك الرابطة الوثيقة هي: «المؤاخاة» التي روعيت فيها الدقة، إلى الحد الذي يضمن معه أن يحفظ في هذا المجتمع الجديد معها التماسك والتعاضد إلى أبعد مدى ممكن وأقصى غاية تستطاع ؛ لا سيما وأنه كان يؤاخي بين الرجل ونظيره.
وسر ذلك يرجع إلى أن هذه المؤاخاة قد أقيمت على أساسين اثنين:
الأول: الحق
فالحق هو القاسم المشترك بين الجميع، عليه يبنون علاقاتهم، وهو الذي يحكم تعاملهم مع بعضهم البعض في مختلف مجالات الحياة.
نعم، الحق هو الأساس، وليس الشعور الشخصي النفسي، ولا المصلحة الشخصية أو القبلية، أو الحزبية!!
وبديهي: أن الحق إذا جاء عن طريق الأخوة والحنان والعطف، فإن ذلك يكون ضمانة لبقائه واستمراره، والتعلق به، والدفاع عنه.
أما إذا فرض هذا الحق فرضاً عن طريق القوة والسلطة، فبمجرد أن تغيب السلطة، والقوة، فلنا أن نتوقع غياب الحق، لأن ضمانة بقائه ذهبت، فأي مبرر يبقى لوجوده، وبقائه ؟!.
بل ربما يكون وجوده وبقاؤه مثاراً للأحقاد والإحن التي ربما يتولد عنها الظلم والطغيان في أبشع صوره وأخزاها، وأسوأ حالاته وأقصاها.
الثاني: المؤاساة
فهذه الأخوة إذاً، ليست مجرد توهج عاطفة، أو شعور نفسي، وإنما هي أخوة مسؤولة ومنتجة، تترتب عليها آثار عملية بالفعل، يحس الإنسان فعلاً بجدواها وبفعاليتها، تماماً كالأخوة التي في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ... ﴾.
حيث جعل مسؤولية الصلح بين المؤمنين متفرعة وناشئة عن الأخوة الإيمانية.
وإذا كانت أخوة خيرة ومنتجة، فمن الطبيعي أن تبقى، وأن تستمر، ومن الطبيعي أيضاً أن يستمر الاحتفاظ بها، والحفاظ عليها إلى أبعد مدى ممكن. وقد كانت لهذه المؤاخاة نتائج هامة في تاريخ النضال والجهاد.
وقد امتن الله على نبيه في بدر بقوله: ﴿ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله)، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الخامسة، 2005 م. ـ 1425 هـ. ق، الجزء الخامس.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان