من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

المعاهدات في الإسلام (3)

الوفاء بالعهد ضرورة حياتية

 

ونجد أمير المؤمنين «عليه السلام» قد أوجب على واليه الوفاء بالعهد، بل هو قد طلب منه أن يجعل نفسه جُنة دون ما أعطاه. وقد علل ذلك: بأنه من الأمور التي اتفقت عليها جميع الناس، رغم تفرق أهوائهم، وتشتت آرائهم، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم، وذلك انطلاقاً من إحساسهم بضرورة ذلك، حين رأوا: عواقب الغدر الوخيمة، التي من شأنها أن تدمر حياتهم، وتقضي على كل نبضات الراحة والاستقرار فيها.

 

ولكنهم قد خالفوا ضميرهم ووجدانهم، وكل المعايير الأخلاقية، والعقلية في تعاملهم مع المسلمين، حيث أجازوا لأنفسهم نقض عهودهم معهم، وتحمل كل ما لذلك من تبعات ونتائج.. وذلك يدلل على عدم انسجامهم مع قناعاتهم ولا مع فطرتهم في مواقفهم تجاه الإسلام والمسلمين.

 

وقد اعتبر «عليه السلام»: من يخيس بعهده، ويغدر بذمته، ويختل عدوه، ويجتري على الله جاهلاً لا يعرف الأمور ومواردها، ولا الصالح من الطالح، وهو شقي أيضاً، لأنه بالإضافة إلى أنه يكون متجرئاً على الله سبحانه في ذلك، فإنه يكون قد جر على نفسه الكثير من المصائب والبلايا نتيجة لسياساته الخاطئة هذه.

 

وخلاصة الأمر: إن العهد في الإسلام ليس وسيلة للمكر والخداع بهدف الإيقاع بالعدو، وإنما هو أمانة ضميرية، ذات قاعدة إيمانية أساسية؛ فلا بد من رعايتها والوفاء بها ولا يسوغ نقض العهد «بغير حق» حتى ولو كان فيه ما يوجب الضيق كما تقدم في عهد علي «عليه السلام» للأشتر، وروي عن النبي «صلى الله عليه وآله» قوله: «لا دين لمن لا عهد له» (1).

 

وقد مدح الله من يفي بعهده فقال: ﴿ ... وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ... ﴾ (2). وقد ذم علي «عليه السلام» عمرو بن العاص فقال: «ويُسأل فيبخل، ويخون العهد» (3). وقد ذم «عليه السلام» أهل البصرة بقوله: «وعهدكم شقاق» (4). وقال «عليه السلام»: «وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون» (5).

 

الغدر عجز وعدم ورع

 

وقد قال علي «عليه السلام»: «إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنة أوقى منه، ولا يغدر من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم؟ قاتلهم الله. قد يرى الحُوَّل القُلَّب وجه الحيلة، ودونه مانع من أمر الله ونهيه؛ فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين» (6).

 

الغادر هو الذي يعاقَب

 

وطبيعي أن ينال العقاب خصوص أولئك الذين ينقضون العهد، ويخونون أماناتهم، وقد أوضح ذلك أمير المؤمنين «عليه السلام» حينما قال: «مع أني عارف لذي الطاعة منكم فضله، ولذي النصيحة حقه، غير متجاوز متهماً إلى بريء، ولا ناكثاً إلى وفيّ» (7).

 

السلاح في أيدي المعاهدين

 

كما أن من الطبيعي: أن يحتاط الحاكم الإسلامي، فلا يترك في أيدي المعاهدين، الذين يعيشون في ظل حكمه، وتحت حمايته، من السلاح والتجهيزات ما يشكل خطراً على أمن الدولة، مع التأكيد على احترام كل ما يعود إليهم من أموال وممتلكات، وعدم المساس بها في أي حال. قال علي أمير المؤمنين «عليه السلام»: «.. ولا تمسن مال أحد من الناس، مصلّ ولا معاهد، إلا أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يعدى به على أهل الإسلام؛ فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام؛ فيكون شوكة عليه .. الخ . .» (8).

 

موقف له دلالاته

 

ومن المعلوم: أن مواقف علي أمير المؤمنين تعتبر التجسيد الدقيق والحي لمفاهيم الإسلام وأحكامه وسياساته. والتاريخ يحدثنا: أنه حين بلغه «عليه السلام» إغارة خيل معاوية على بلاد المسلمين، خطب «عليه السلام» خطبة الجهاد المعروفة، وقد جاء فيها: «هذا أخو غامد، وقد وردت خيله الأنبار، وقد قتل حسان بن حسان البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها. ولقد بلغني: أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها (9) ما تمنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلاً منهم كلم، ولا أريق لهم دم؛ فلو أن امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً» (10).

 

ونحن نسجل هنا ما يلي

 

إن هذا الموقف منه «عليه السلام» يوضح لنا قيمة الإنسان في الإسلام، واهتمامه البالغ في الحفاظ على موقعه، وعلى كرامته ووجوده. حتى إن الرجل الأول في الدولة الإسلامية ليعاني من الألم والأسى بسبب الاعتداء على كرامة الإنسان ما يجعل الموت أسفاً على ما جرى أمراً مقبولاً، بل يجعله هو الجدير واللائق به. ثم هو «عليه السلام» يقرر: أن هذا الحدث لا بد أن يؤثر بهذا المستوى أيضاً في كل إنسان مسلم، من كان ومهما كان.

 

إنه يعطي أن أمير المؤمنين «عليه السلام» ـ وهو الذي يمثل نظرة الإسلام الأصيلة ـ ينظر بعين المساواة إلى كل من هم تحت سلطته، أو تحت حمايته، فهو يتألم للمرأة كما يتألم للرجل، وهو يتألم كذلك للمعاهدة والتي هي على غير دينه، بنفس المستوى الذي يتألم فيه للمسلمة، وهو يطلب موقفاً حازماً تجاه الاعتداء على كرامتهما معاً من كل مسلم، بنفس القوة والفعالية والتأثير في رفع الظلامة وإعادة الحق إلى نصابه.

 

إنه «عليه السلام» قد حاول إثارة الناس وتحريكهم بأسلوب عاطفي يلامس مشاعرهم وأحاسيسهم؛ فتحدث عن سلب المغيرين حلي النساء المسلمات والمعاهدات، وفي ذلك إثارة عاطفية، وتحريك لاشعوري للناس، الذين سوف يسوؤهم الاعتداء على هذا الموجود الذي يمثل جانب الرقة والحنان في المجتمع.

 

إنه «عليه السلام» إنما توقع من المرء «المسلم» أن يموت أسفاً، واعتبره جديراً بذلك، وحرياً به .. ولعل هذا الأمر يشير إلى أن الإسلام هو ذلك الدين الذي يغرس في الإنسان معاني إنسانيته، ويربيه تربية إلهية يحيا بهـا وجدانه، وتتنامى فيها خصائصه ومزاياه الإنسانية، فيصبح حي الشعور، صافي النفس، سليم الفكر، إلهي المزايا..

 

كما ونجده صلوات الله وسلامه عليه.. قد أهدر دماء المعتدين، واعتبر أن أدنى جزاء لهم هو أن ينالهم كلم وجرح، وتهرق دماؤهم، رغم أن ما ارتكز عليه بيانه، وجعله منطلقاً له في تقريره هذا الجزء القاسي هو أمر لا يزيد على سلب الحجل والقلب والرعاث من امرأة مسلمة وأخرى معاهدة. وذلك لأن الميزان في العقاب إنما هو درجة الجرأة على الله وعلى المحرمات، ثم ما ينشأ عن ذلك من فساد وإفساد، في البلاد والعباد.

 

إنه «عليه السلام» إنما ركز على الجانب الإنساني؛ فحاول أن يؤكد للناس لزوم نصرة الضعيف، والدفاع عنه والحفاظ عليه، وأن ذلك هو مسؤولية كل فرد قادر بالنسبة إليه.. وقد أثار انتباه الناس إلى جانب الضعف هذا حين قال: «ما تمنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام».. وليكن من ثم مبدأ نصرة الضعيف والدفاع عنه من الأوليات التي يفرضها الوجدان الحي، والضمير الإنساني.

 

ثم هناك الجانب التربوي، الذي يستهدف تركيز مفهوم العدالة في التعامل، فلا يفرق بين مسلم ومعاهد، ثم مفهوم عدم التغاضي عن المعتدين والمجرمين، وعدم التواكل في رد العدوان. إلى غير ذلك مما لا مجال لتفصيله هنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. السنن الكبرى ج9 ص231 وغرر الخصائص الواضحة ص60.

2. القرآن الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 177، الصفحة: 27.

3. نهج البلاغة ج1 ص145 الخطبة رقم 80.

4. نهج البلاغة الخطبة رقم 12 ج1 ص40 والأخبار الطوال ص151 وربيع الأبرار ج1 ص308.

5. نهج البلاغة الخطبة رقم 102 ج1 ص204.

6. نهج البلاغة بشرح عبده ج1 ص188 الخطبة رقم 40.

7. نهج البلاغة، بشرح عبده ج3 ص41 الرسالة رقم 29.

8. نهج البلاغة ج3 ص90 الرسالة رقم 51.

9. الرعاث: جمع رعثة: القرط، والحجل: الخلخال، والقلب: السوار.

10. نهج البلاغة، بشرح عبده ج1 ص64 و 65 خطبة رقم 26 والأخبار الطوال ص211 و 212 والغارات ج2 ص475 و 476 والمبرد في الكامل ج1 ص20 والعقد الفريد ج4 ص70 ومعاني الأخبار ص310 وأنساب الأشراف (ط مؤسسة الأعلمي) ج2 ص442.

.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد