قراءة في كتاب

النّبوة وضروراتها: ثورة بين صميم المجتمع وعمق النّفس البشريّة

 

ربى حسين ..

النبوّة، الأصل الثالث من الأصول الخمسة وفق مذهب مدرسة أهل البيت عليهم السلام. والأنبياء،  أفراد من البشر يشكلون واسطةً بين الله وسائر الناس، يتلقون الأوامر من الله ويبلِّغونها لهم. وليست النّبوة كما يعتقد بعضهم؛ من أنّها تقوم على الوعظ والإرشاد، فحسب بل هي حالة من حالات النّهوض، والثّورة في النّفس البشريّة، قبل أن تكون في صلب المجتمع.

يأتي كتاب "النّبوّة وضروراتها" للإمام علي الخامنئي، ليعرض مبحثًا من مباحث أصول الدّين الأساسيّة، النّبوّة. وهو عبارة عن ثماني جلسات قرآنيّة استكمالًا للكتابين: الإيمان ومستلزمته، والتّوحيد وآثاره. لم يتطرّق الإمام الخامنئي فيه لمبحث النّبوة كما يدرس عادة في مباحث العقيدة، بل تجاوز ذلك إلى ما هو بنظره؛ أهم وهي فلسفة النّبوة بمعنى ضرورة وجود النبي في حياة الفرد والمجتمع.

 

فلسفة البعثة النّبويّة

يتطرق الفصل الأوّل من الكتاب إلى الحديث عن الكيفيّات الدّاخلية والخارجيّة للعالم المحيط لحامل الرّسالة والنّبوة وللنّبي نفسه. وصف القرآن الكريم النّبوة بالبعثة "ولقد أرسلنا في كلّ أمّة رسولا"، وتشير البعثة إلى التّحرّك بعد الفتور والرّكود والضّعف، يبدأ هذا التّحوّل والتّبدّل يحدث في وجود النّبي نفسه، في ذاته وباطنه. ويكون هذا سببًا لتغيير طريقه؛ بحيث يأخذ سعيه في الحياة صبغة جديدة. يعتبر الإمام الخامنائي في هذه المسألة؛ أنّ النّبوّة هي قوّةٌ أعلى وأصل أساسي ولو لم تكن كذلك لما بقي للدّين أيّ معنى أو مفهوم صحيح. فهذا الإنسان يحتاج إلى هداية أعلى وأعمق من هداية الحس والغريزة والعقل التي بنى الفلاسفة كأرسطو وأفلطون نظريَاتهم عليها، وقد أوتيَ بالأنبياء ليستثيروا تلك العقول المدفونة، ويحرّكوها بواسطة قوّة الوحي الّتي يتصلون بها ويحصلون عليها، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

 

أهداف النّبوّة

تفرّع البحث حول النّبوة إلى أن وصل إلى الهدف والمقصود النّهائي؛ الّذي يسعى إليه النّبي ويتحرّك نحوه. وفي مطلع حديثه يختصر الإمام الخامنئي الهدف الأساسي والأهم في عدّة كلمات: "يأتي الأنبياء إلى هذا العالم؛ من أجل إيصال الإنسان إلى التّرقي والتكامل الذي أعدّ له: فالإنسان كموجود ذي استعدادات وقوى وطاقات كثيرة، يمكن أن يصبح موجودًا أعلى وأرقى وأعز وأشرف مما هو موجود.

يضيف الإمام: أنّ الأنبياء يأتون من أجل تصفية البشر وتزكيتهم وتطهيرهم. فعندما نتأمل في بيئة دعوة الأنبياء، لن نرى أي مظهر من مظاهر الحياة الحيوانيّة، بل نور الصفاء والإنسانيّة. وحتّى معجزات الأنبياء، قد سخّرت في سبيل صناعة الإنسان الجيّد والمتحلّي بالفضائل.

 

وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوًّا

وأولى ترانيم الدّعوة، إعلان التّوحيد تمهيدًا لتشكيل المجتمع التّوحيدي وبناء النّظام الإلهيّ، وإقامة الحكومة الإلهيّة العادلة، وتأسيس التشكيلات والمؤسّسات الّتي تدار على أساس القوانين والمقرّرات الإلهيّة. وقد قال النّبي محمد (ص) تثبيتًا لما ورد: "لن تقدّس أمّةٌ لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غير المتعتع".

وتحت عنوان الجماعات المعارضة، يعرض الكتاب بعض الأمثلة القرآنيّة لمن عارضوا الأنبياء وبشراهم التّوحيديّة كفرعون، وهامان، وعاد، وثمود وغيرهم. هؤلاء الّذين كانو يجحدون بآيات اللّه، ويمنعون سلوك الطّريق إليه. فزوجة فرعون قرّرت التغيير، وهي تحت أعظم طاغية، وابن نوح لم يقرّر التّغيير، وقد كان تحت أعظم داعية.

 

عاقبة النّبوّة

وقد تناول الكتاب موضوع عاقبة النّبوة وآثارها داخل المجتمعات البشريّة."لقد بذلوا مهجهم"، هكذا وصف الإمام الخامنئي الأنبياء جميعًا الّذين أرادوا الارتقاء بالبشريّة، وفتح أبواب العلم والمعرفة لها.

وأضاف: "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين"، هذه الكلمة تظهر أمر الله الّذي تمّ وانقضى."إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون"، وها هو النّصر خير عاقبة للمتّقين؛ الّذين استوفوا الشّروط الأساسيّة كالإيمان والصّبر "بلى إن تصبروا وتتّقوا". ويؤكّد الإمام الخامنئي، أنّه لو تمسّك مسلمو العالم اليوم بهذين الشّرطين على طريق التّطوّر الثقافي والاقتصادي والسّياسي، لغدوا قوّة جبّارة في وجه أعداء الدّين، بلحاظ الثقافة والسّياسة والاقتصاد. ولو أنّ الأمة العظيمة التي تعد حوالي 700 مليون نسمة، اتّخذت من وصايا قرآنها ذخيرة لانتصرت على العالم بأسره.  هذه هي حصيلة البحث، لقد أراد الإمام ومن خلال تبيان آيات القرآن؛ أن نعلم أنّ عاقبة كلّ نبوّة هي عاقبة حسنة {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.

 

الالتزام بالإيمان والنّبوّة

وفي الفصل الأخير من الكتاب الذي يحوي سلسلة من المحاضرات الرمضانيّة، يطرح الإمام الخامنئي عدة تساؤلات مرتبطة بالنّبوّة والأثر العملي والحياتي لها. فعندما نقول "أشهد أن محمدًا رسول الله" ونعلن ذلك في آذاننا وصلاتنا وفي الشّهادتين، أنّنا أمّة هذا النّبي (ص) نعتقد ونؤمن بنبوّته ونشهد على ذلك. فما هو الالتزام والمسؤوليّة الّتي يلقيها هذا الإيمان على عاتقنا؟ وهل توجِد هذه العقيدة والشّهادة والتّشهّد مثل هذا الالتزام؟

إن المؤمن؛ هو ذاك الّذي يتمسّك بالمسؤوليّات والالتزامات الّتي يحدّدها الإيمان بالنّبوّة لكل إنسان. تلك المسؤوليّات الّتي تستلزم أن نرى الحمل العظيم للنّبي الّذي أراد نقله لمكانٍ آخر ليبني به بنيانًا عظيمًا، وأن ننظر في زماننا لنرَى هل أنّ هذا الحمل الّذي أراد الرّسول حمله نقل بشكل تام؟! وبناءً عليه يعتبر الإمام الخامنئي أنّه علينا السّعي لبناء قواعد هذا البنيان والالتزام بهذا العهد وهذه المسؤوليّة، وإلّا كان حالنا كحال المنافقين في قوله تعالى: "إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ".

ويبقى الالتزام بالرّسالة، الّتي تقدّم فكرًا جديدًا، عبارة عن صناعة عالم على الشّاكلة الّتي يريدها الإسلام. وتبقى هذه هي مسؤوليّة النّبوة وعهدها، أن ترقى بالحياة البشريّة إلى جنة هذا العالم في الدّنيا كما الآخرة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد