مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

المراحل الثلاثة في رحلة الحج (2)

المرحلة الثانية: الانصهار في الجماعة

 

فإذا تجرّد الإنسان عن (الأنا)، وانسلخ عن ذاته، وجد نفسه فجأة في وسط حشد بشري كبير هادر، ينطلق من الميقات إلى الكعبة، كما تصبُّ الأنهر في البحر.

 

من كل ميقات من هذه المواقيت التي وقّتها رسول الله (ص) يجري نهر كبير من الناس، يتدفق ويصبّ في الحرم حول الكعبة، فتتجمع هذه الأنهر حول البيت الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل، وفي هذا الخضم البشري المتلاطم لا يشعر الإنسان بذاته، ولا يشعر بكينونته الفردية... وتذوب شخصية الفرد في هذا التيار البشري العظيم، ويتضاءل عنده الإحساس بـ - (الأنا)، حتى لا يكاد يشعر به صاحبه، ويقوى عنده الإحساس (بالجماعة) و(نحن) و(الأُمّة) بدل (الأنا والأنا والأنا)، فيملأ عليه كل حواسه ومشاعره، فلا ترى في المطاف أفراداً يتحركون، وإنّما ترى كتلة بشرية واحدة من الناس تطوف حول البيت العتيق.

 

ولو أنّ الحاج الذي تجرد في الميقات لم يكن يصبّ في المطاف في بحر الجماعة المؤمنة لكان يضيع ويفقد مقومات وجوده وشخصيته، كما يضيع الوجوديون اتباع جان بول سارتر، عندما يتجردون عن هوياتهم وماهياتهم التي خلقها الله تعالى عليها «1»، ولكنّه لا يكاد يتجرّد من الأنا ومعالمه وحدوده حتى يستلمه البحر البشري الكبير في المطاف، كما تصب سواقي الماء في النهر الكبير، ويعود في المطاف إلى لون جديد من الحياة، وإلى حياة جديدة لم يألفها من قبل بهذه القوة والفاعلية، ولم يتذوقها بهذه الصورة؛ يموت فيه الأنا، ويبعث الله في نفسه الإحساس بالجماعة، وينتقل إلى طور جديد من الحياة، أهم خصائصه غياب الفردية وحضور الله تعالى في حياته، وسط بحر متلاطم من الناس.

 

ويقوى هذا الإحساس لدى الإنسان في المطاف، وفي السعي، وفي الموقف في عرفات، وفي الإفاضة إلى المزدلفة، وفي المزدلفة، وفي منى، وفي العودة إلى الطواف والسعي، ويتضاءل لدى الإنسان المسلم الإحساس بالأنا، ويتأكد لديه الإحساس بالجماعة المسلمة، وبأنه عضو من جسم واحد، وليس فرداً من مجموعة إنسانية، وبأن هذه الأُمّة كيان واحد «2»، ومصير واحد، وما يصيبه من خير وشر يصيب الجميع، وما يصيب الجماعة يصيبه لا محالة، وبأنه وحده لا يستطيع أن يتحرك إلى الله على خطى إبراهيم (ع) إلّا أن يذوب في هذا الحشد البشري الكبير المتجه إلى الله.

 

إنّ الناس قبل أن يدخلوا الميقات مجموعة من الأفراد، يتمايزون فيما بينهم، ويتزايدون، ويتكاثرون، ويتفاخرون، ويتجادلون، ويضرّ بعضهم بعضاً، ويعتدي بعضهم على بعض، وتجمعهم المجامع من المدن، والضواحي، والقرى، فتجتمع في هذه المجامع هذه النزعات المتضاربة، والأهواء المتخالفة، والرغبات المتضادة، وتتقاطع، فتكون المجاميع البشرية ساحة للصراع والخلاف؛ أمّا عندما يدخلون الميقات، ويتجاوزونه إلى الحرم، ويصبّون من خلال قنوات المواقيت التي وقّتها رسول الله (ص) إلى الحرم، فإنهم يتحوّلون إلى أمّة واحدة، يتحركون باتجّاه واحد، ويلبّون دعوة واحدة، ويلبسون زياً واحداً، ويطوفون حول كعبة واحدة، ويسعون في مسار واحد، ويؤدون مناسك واحدة، لا يختلفون، ولا يتجادلون، ولا يتفاخرون، ولا يتضاربون، ولايؤذي بعضهم بعضاً، وكأنّ الحرم يصهرهم في بوتقة واحدة، ويجعل منهم كياناً جديداً يختلف عما كانوا عليه.

 

حرم آمن

 

وأبرز خصائص هذا التركيب الجديد للمجتمع البشري الذي يستحدثه (الحرم) في حياة الناس هو الأمن والإحساس بــ - (الأمن) إنّ هذا الأمن من نتائج هذا التركيب البشري الجديد الذي يجده الناس في الحرم، وهو في نفس الوقت من أسبابه وموجباته.

 

فإنّ الناس إذا شعروا بالأمن، بعضهم من بعض، التقى بعضهم بعضاً في غير حذر، وتعامل بعضهم مع بعض، وتلاقوا، وتآلفوا، وتعاونوا.

 

فالأمن يُعدّ الناس، ليكونوا أمة واحدة، والأمن يعطي للناس هذه الفرصة التي تتطلبها عملية الانتقال من الحياة الفردية التي يعيشها عامة الناس إلى هذا النمط الجديد الذي يريده الله تعالى لعباده، والذي يرسم (الحرم) نموذجاً لها، كما يصح العكس أيضاً، فإنّ الأمن والإحساس بالأمن هو النتيجة الطبيعية لهذا اللون الجديد من الحياة الاجتماعية، فإنّ الناس عندما يحشرون في الحرم لا يختلفون، ولا يتشاجرون، ولا يتفاخرون، ولا يتزايدون، ولايتضاربون.

 

الحرم رقعة نموذجية لساحة الحياة

 

والله تعالى يريد أن يكون وجه الأرض كله آمناً للناس، يعيش الناس بعضهم مع بعض في أمن، ودعة، وسلام، لا يحقد بعضهم على بعض، ولا ينوي أحد لأحد شراً يؤثر بعضهم بعضاً على نفسه، ويجب بعضهم بعضاً.

 

يقول تعالى في صفة المهاجرين والأنصار في الصدر الأول من هذا الدين... ولكن الناس يرفضون أن يعيشوا كما يريد الله تعالى لهم.

 

فجعل الله لهم من الحرم (رقعة نموذجية) للحياة الآمنة التي يريدها للناس بدعاء عبده وخليله إبراهيم (ع) (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). «3» وقد استجاب الله تعالى لدعاء عبده وخليله إبراهيم (ع) فقال: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً). «4» والمثابة، المحل الذي يثوب ويرجع إليه الناس، ويجمع الناس، وقد جعل الله تعالى البيت مثابة للناس، يجمع الناس، ويرجعون إليه، ويقصدونه من كلّ فجّ عميق، ثم جعله آمناً يأمن فيه الناس بعضهم من بعض، ولا يحذر فيه أحد الآخرين على نفسه؛ يقول تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) «5»، وجعل رقعة الحرم رقعة نموذجية لساحة الحياة كلها، كما جعل الشهر الذي يؤم فيه الحجاج البيت الحرام، وهو (ذو الحجة ) من الأشهر الحرم.

 

يقول الله تعالى: (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً). «6» وحتى (الجدال) الذي يتضمّن نوعاً من الصدام، يحرمه الله تعالى على الحجاج (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ). «7» والأمن في الحرم أمن شامل يشمل حتى الحيوان والنبات، فلا يجوز الصيد في الحرم، ولا يجوز قطع النباتات والأشجار فيه، إلّا في حالات خاصة يذكرها الفقهاء، وحرمة الصيد وقطع النباتات لا تخص حالة الإحرام، فإنهما تحرمان على المحُرِم والمحُلّ معاً في منطقة الحرم.

 

و(الحرم) في الإسلام عينة صغيرة لساحة الحياة كلها، والذي يحبّ أن يعرف رأي الإسلام في الحياة، فإنّ هذه العينة الصغيرة، والرقعة المحدودة من الأرض، تجسد تخطيط الإسلام لساحة الحياة الواسعة.

 

فإنّ (العلاقة) فيما بين الناس، والارتباط، والتلاقي، هو الإفراز الطبيعي للحياة الاجتماعية، فمن أجل هذه (العلاقة) و(اللقاء) و(التلاقي) خلق الله تعالى الإنسان اجتماعياً، وأعدّه للحياة الاجتماعية، ولا يبلغ الإنسان الكمال والنضج الذي أعدّه الله تعالى له إلّا في وسط هذه العلاقات واللقاءات، في الحياة الاجتماعية؛ فلو أنّ إنساناً اعتزل الناس، وعاش وحده في جزيرة قاصية في البحر، لم يبلغ بالتأكيد النضج والكمال الذي أعده الله تعالى له، وهذه اللقاءات والعلاقات إنما تثمر، وتعطي، وتنتج في حياة الإنسان، فيما إذا توفر له الجوّ السليم بالأمن والسلام؛ أمّا عندما تتكوّن هذه العلاقة في جوّ من الريبة، والحذر، والخوف، والقلق، والعدوان، والكيد، والمكر، فإنّ هذه العلاقة والارتباط فيما بين الناس لا تكاد تثمر هذه الثمرة، ولا تكاد تبلغ بالإنسان النضج والكمال الذي يطلبه الإنسان في الحياة الاجتماعية من خلال هذه العلاقات، بل قد تعود العلاقة في مثل هذا الجوّ إلى نتائج سلبية في حياة الإنسان، وهو كثير.

 

فالإسلام يخطط بناء على هذا الفهم، لإقامة شبكة العلاقات فيما بين الناس، وتنظيمها، وتهذيبها، وتحديدها بالحدود الإلهية الآمنة في حياة الناس، ليجعل العلاقة فيما بين الناس في الحياة الاجتماعية في جوّ آمن وسليم، فيأمن الإنسان الآخرين على نفسه في حضوره، وغيبته، وفي نفسه، وعرضه، وماله، كما يأمنه الآخرون على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم في الحضور والغياب، ويعيش في جوّ من الأمن الشامل، ويبني علاقاته كلها مع الآخرين في هذا الجوّ الآمن، في السّراء والضّراء، وفي التجارة والبيع، وفي الزواج والعلاقات الاجتماعية، وفي علاقاته مع أصدقائه وزملائه، وفي علاقاته مع أعضاء أسرته، وفي ارتباطه بمن هو فوقه ومن هو دونه، وحينما يأخذ وحينما يعطي، وحينما يحتاج إلى الآخرين، وحينما يحتاج إليه الآخرون.

 

يخطط الإسلام ويعمل ليجعل (العلاقة) فيما بين الناس في الحياة الاجتماعية على كلّ الأصعدة في جوّ من الأمن والسلام، لتعطي هذه (العلاقة) الثمرات المطلوبة منها في الحياة الاجتماعية، ويسعى الإسلام في هذا التنظيم والتخطيط الشامل للعلاقات الاجتماعية، ليجعل الحياة الاجتماعية حياة آمنة مطمئنة، يعيش الناس فيها بسلام.

 

(والحرم) - كما قلنا - عيّنة صغيرة نموذجية من الحياة الآمنة والمطمئنة التي يطلبها الإسلام... و(الإحرام) عينة أخرى نموذجية للحالة التي يطلبها الإسلام للناس في الحياة الاجتماعية في علاقة بعضهم ببعض.

 

ويعود الحجاج من (الإحرام) و(الحرم) إلى واقع حياتهم، ليأخذوا معهم النموذج الإلهي للحياة وللعلاقات الاجتماعية، ويعيشوا حياتهم بها، أو بما يقرب منها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مع فارق جوهري بين طريقة تفكير (جان بول سارتر) معلم الوجودية المعاصرة (اكزيستانياليسم) وبين المنهج الإلهي في إعداد الإنسان للقاء الله.

إنّ المنهج الإلهي في إعداد الإنسان لا ينفي أنّ هذه الخصال الفردية والاجتماعية والقيم واللّاقيم الموجودة عند الإنسان كله من خلق الله، ومغروسة في الفطرة... يقول تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ.. الأنبياء: 37، إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً.. المعارج: 19 - 20، وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا.. الكهف: 54، خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً.. النساء: 28.

إنّ الحياء مغروس في الفطرة، في خلق الله، وليس من إضافات الأعراف الاجتماعية، كما أنّ الشهوات مغروسات في الفطرة، في مرحلة الخلق، وأنّ النزعات الفردية (الأنا، والحسد، والطمع، والإثرة، والجدل، والرياء، وحب المال والموقع...) من خلق الله، في عمق الفطرة، كما أنّ الخصال والنزعات الاجتماعية من خلق الله (الإيثار، والرحمة، والعاطفة، والإنصاف، وحب الآخرين...).

بينما يرى سارتر والماركسية أنّ هذه الخصال والنزعات الفردية وكذلك الاجتماعية من إضافات الحياة الاجتماعية، ويولد الإنسان ولا يحمل في نفسه خصلة من هذه الخصال الفردية والاجتماعية، وإنما يضيفه إليه الوسط الاجتماعي الذي يعيشه الإنسان، ويأخذه الإنسان منه.

والإسلام ينفي هذه الكلية، من غير أن ينفي دور الوسط الاجتماعي والتربية في تحكيم هذه الخصال. والفارق الآخر بين النهج الإلهي في إعداد الإنسان للقاء الله، والمناهج البشرية الوجودية والماركسية (وهما متقاربان في هذه النقطة بالذات)؛ إنّ المنهج الإلهي يدعو إلى تحديد وتعديل هذه الخصال والنوازع الفردية، ولا يدعو إلى إلغائها، بينما لا نعرف للوجودية والماركسية منهجاً تربوياً لتعديل هذه النوازع في نفس الإنسان. وهذا الموضوع يحتاج إلى بسط، ليس موضعه هنا.

(2) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ... الأنبياء : 92

(3) البقرة : 126

(4) البقرة : 125

(5) العنكبوت : 67

(6) آل عمران : 97

(7) البقرة : 197

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد