مقالات

معرفة الله تعالى في دعاء العهد (1)

الشيخ محسن قراءتي

 

"اللَّهُمَّ رَبَّ النُّورِ الْعَظِيمِ، وَرَبَّ الْكُرْسِيِّ الرَّفِيعِ، وَرَبَّ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَرَبَّ الظِّلِّ وَالْحَرُورِ، وَمُنْزِلَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَرَبَّ الْمَلاَئِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالأَنْبِياءِ وَالْمُرْسَلِينَ".

 

يبدأ هذا الدعاء بعبارة "اللّهُمّ"، وقد تكرّرت ثلاث عشرة مرّة فيه، ما يعطي للداعي توجّهاً خاصّاً إلى الله تعالى. بعدها جاءت كلمة "ربّ" وقد تكرّرت في الدعاء خمس مرّات، ما يشير إلى أنّ على الداعي أن يستذكر الله دائماً وفي جميع لحظات الدعاء.

 

في القرآن الكريم ورد دعاء كهذا، إذ جاء في سورة المائدة (الآية 114) قوله تعالى: ﴿ٱللَّهُمَّ رَبَّنَا﴾. وأدعية القرآن عادةً تبدأ باسم "ربّ"، ولكن في هذه الآية بدأت بكلتا الكلمتين: "اللّهمّ ربّنا"، ولعلّ ذلك بسبب أهمّيّة الحادثة ودلالتها. وهذا يعلِّمنا ضرورة أن ننادي الله تعالى، وأن نطلب منه بأدب كامل، وبالصفة المناسبة لحاجاتنا.

 

دعا النبيّ عيسى (عليه السلام) ربّه أنْ: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة: 114] والمشركون يعلمون أنّ هذا لم يكن عملاً عاديّاً، بل كان معجزةً غيبيّةً إلهيّة.

 

وعليه، فمثل هذا الدعاء مذكور في القرآن الكريم، وله دلالة على روح معرفة الله تعالى في الأدعية. والإنسان المنتظِر بحاجة إلى مجموعة من المعارف، وأوّلها هو الذي ورد في بداية هذا الدعاء.

 

الاستفادة من النعم المعرفيّة:

 

إنّ الفرق بين الإنسان وسائر الموجودات الأخرى يكمن في قدرته على الاستفادة من النعم المعرفيّة الكبرى. وحول أهمّيّة المعرفة، يكفي ما يدعونا إليه تعالى في كثير من آيات القرآن الكريم لكسب المعرفة، وذمّه سبحانه وتوبيخه بشدّة لأولئك الذين لا يتفكّرون ولا يتدبّرون ولا يعقلون.

 

لقد نهانا الله تعالى في كتابه عن اتّباع ما ليس لنا به علم: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وقد وصف سبحانه أولئك الذين يسيرون ويعملون بلا معرفة بأنّهم صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ، لأنّهم لا يتدبّرون.

 

من اللافت جدّاً في مجال ضرورة المعرفة، ما جاء في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل بن زياد، حيث يقول (عليه السلام): "يا كميل، ما من حركةٍ إلّا وأنت محتاج فيها إلى معرفة" (1).

 

المعرفة هي التي تعطي القيمة لأعمالنا، ففي الإسلام تقاس درجات الأعمال والأفعال بميزان المعرفة، وكلّما زادت معرفتنا صارت قيمة أعمالنا أعلى وأرفع.

 

معرفة الله، والأنبياء، والأئمّة، والوجود، وأصول الدين وفروعه، أمر ضروريّ ولازم للمنتظرين.

 

بالالتفات إلى هذا الأمر، فإنّ أوّل المسير الذي يخطّه هذا الدعاء للحياة المهدويّة هو معرفة الله؛ لأنّ بداية هذا الدعاء هي بذكر الله تعالى وصفاته.

 

من يريد أن يعرف إمام زمانه (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، عليه أن يعرف الله أوّلاً. وقد ورد الحثّ على قراءة دعاء: "اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ. اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ. اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي" (2).

 

معرفة الله مقدّمة لمعرفة الإمام:

 

الإنسان الذي يسعى لمعرفة إمام العصر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) لا بدّ من أن يكون إنساناً يمتلك معرفةً توحيديّة، وعلى معرفة بالله تعالى؛ لأنّ معرفة الله مقدّمة لمعرفة الإمام.

 

إنّ القاعدة والركيزة الأساس لجميع تحرّكات المنتظرين الحقيقيّين للمهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) وتصرّفاتهم، هي المعرفة الحقيقيّة بالله تعالى، والمعرفة العميقة بالتعاليم الدينيّة.

 

هذه النظرة هي التي تبعث على ملاحظة الملكة الباطنيّة في تطبيق جميع القوانين الإلهيّة، بحيث يلاحظ الشخص المنتظِر ذلك في مشيه، وفي جلوسه، وفي نظره، وفي سمعه، بل وفي فكره أيضاً، ويقدّم رضا الله تعالى ورضا حجّة الله على كلّ شيء.

 

وقد حازت معرفة الله تعالى أهمّيّةً كبيرةً في الأوصاف التي جاءت لأصحاب الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، فقد جاء فيهم أنّهم: "رجال عرفوا الله حقّ معرفته، وهم أنصار المهديّ في آخر الزمان" (3)، و"هم الذين وحَّدوا الله حقَّ توحيده" (4).

 

لذا، كان من علائمهم أنّهم: "مجدّون في طاعة الله" (5)، و "هم الذين قال الله فيهم: ... يحبّهم ويحبّونه" (6).

 

في بداية دعاء العهد، ثمّة ستّة عشر وصفاً من الأوصاف الإلهيّة:

 

رَبَّ النُّورِ الْعَظِيمِ، وَرَبَّ الْكُرْسِيِّ الرَّفِيعِ، وَرَبَّ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَرَبَّ الظِّلِّ وَالْحَرُورِ، وَمُنْزِلَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَرَبَّ الْمَلاَئِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالأَنْبِياءِ وَالْمُرْسَلِينَ...إلخ.

 

في هذا المقطع، ذُكر تعالى مع سبع صفات خاصّة، تُعدّ تجلّياً خاصّاً لمعرفته تعالى.

 

اللَّهُمَّ رَبَّ النُّورِ الْعَظِيمِ:

 

عادةً عندما يراد الابتداء ببناءٍ ما يقوم الناس بدعوة إحدى الشخصيّات لافتتاحه ووضع حجر الأساس له. ونحن إذا أردنا أن نفتتح بناءً أو عملاً لنا باسم أحد ما، فلا اسم أفضل من اسم الله تعالى، الله خالق كلّ شيء، وأسمائه الحسنى.

 

قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وقد تكرّرت هذه الآية في القرآن الكريم ثلاث مرّات، ومن بين الأسماء الحسنى، فإنّ أفضل الأسماء الإلهيّة من بينها هو كلمة "الله" الجامع لجميع صفات الكمال، فهو أكمل الأسماء، أي أنّ المعاني والكمالات كلّها موجودة فيه.

 

الربّ: المالك والمدبّر.

 

بعد اسم "الله" ورد في الدعاء اسم "الربّ". وهي كلمة تعني المالك والمدبّر، فالله تعالى هو المالك والمدبّر. وتَكرار هذا الوصف يدلّ على أهمّيّة هذه الكلمة. وقد ذُكر اسم "الربّ" كثيراً في القرآن الكريم، حيث بلغ مئة وثلاثين مرّة، فهو ثاني أكثر كلمة وردت في القرآن الكريم بعد كلمة "الله".

 

هذا النوع من التَكرار لا يتنافى مع البلاغة، لاختلاف موارده.

 

فالتَكرار قد يكون ضرورياًّ للتذكير، أو للتفصيل والتنويع، ويتناسب ذلك مع التربية والتوجيه.

 

تَكرار "يا ربّ":

 

أمّا في أوّل الدعاء، فلا يخلو تَكرار كلمة "ربّ" من الحكمة، خصوصاً في الفقرات الخمس التي ورد فيها هذا الاسم الإلهيّ، لأنّ ذكر كلمة "ربّ" وتَكرارها في الدعاء يجعلان طلب الحاجة مقروناً بالإجابة.

 

ففي سورة الأنبياء (الآية 89)، نقرأ قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89].

 

كما أنّ تَكرار كلمة "ربّ" في بداية أدعية إبراهيم (عليه السلام) - أيضاً - مهمّ ولافت، وفيه دلالة على تأثير ذلك في استجابة الدعاء، أو في كونه أحد آدابه. ففي سورة إبراهيم (الآيتان 40-41)، نقرأ قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 40، 41].

 

ويوجد في الأدعية إصرار وتَكرار ممزوجان بكلمة "ربّ"، ففي دعاء "المجير" نقرأ نحو سبعين مرة: "أجِرنا من النار يا مجير"، وكذلك في دعاء الجوشن الذي يحتوي على مئة فقرة، نقول في نهاية كلّ فقرة: "خلّصنا من النار يا ربّ".

 

أمّا تَكرار كلمة "ربّ" في هذا الدعاء، فلعلّ ذلك لكونه أفضل وأنسب اسم لعقيدة الرجعة، أي أنّ الله تعالى المالك والمدبّر قادر على الإحياء مرّة أخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 77، ص269.

(2) كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ج2، ص512.

(3) كشف الغمّة، الأربليّ، ج2، ص478.

(4) إلزام الناصب، علي اليزديّ الحائريّ، ج2، ص165.

(5) المصدر نفسه، ص236.

(6) الغيبة، النعمانيّ، ص316.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد