مقالات

الصدق


 الفيض الكاشاني ..
أدنى الصّدق الصّدق في القول في كل حال وكماله بترك المعاريض‏(1) ، من غير ضرورة حذرا عن تفهيم الخلاف وكسب القلب صورة كاذبة ورعايته مع اللّه تعالى ، فمن قال : وجهت وجهي للّه وفي قلبه سواه ، أو إيّاك نعبد وهو يعبد الدّنيا فهو كاذب.
ثمّ في النية بتمحيصها للّه تعالى فالشوب(2)‏ ، يفوته يقال صادق الحلاوة أي محصها فالصّادق في النيّة لا بد أن يكون مخلصًا.
ثم في العزم و هو الجزم القوي على الخير فإن الإنسان قد يقدم العزم على العمل فيقول في نفسه : إن رزقني اللّه ما لا تصدقت بجميعه أو شطره ، وإذا لقيت عدوا في سبيل اللّه قاتلته و م أبال وإن قتلت ، وقد يكون في عزمه نوع ميل وتردد وضعف يضاد الصّدق في العزيمة.
ثمّ في الوفاء بالعزم ، فالنفس قد تسخو بالعزم في الحال إذ لا مشقة في الوعد فإذا حقت الحقايق وحصل التمكن وهاجت الشّهوات انحلت العزيمة ، وهذا يضاد الصّدق فيه ولذلك قال اللّه سبحانه : {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب : 23].
ثمّ في الأعمال وهو أن يجتهد حتّى لا تدلّ أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به لا بأن يترك العمل ولكن بأن يستجر الباطن إلى تصديق الظاهر.
وهذا غير الرياء ، لأن المرائي هو الذي يقصد ذلك لأجل الخلق ورب واقف على هيئة الخشوع في صلاته ليس يقصد به مشاهدة غيره ولكن قلبه غافل عن الصّلاة فمن نظر إليه رآه قائمًا بين يدي اللّه عزّ وجلّ، وهو بالباطن قائم بالسّوق بين يدي شهوة من شهواته، وكذلك قد يمشي على هيئة السكون والوقار، وليس باطنه موصوفًا بذلك فهذا غير صادق في عمله، وإن لم يكن ملتفتًا إلى الخلق ولا مرائيا إياهم، ولا ينجو من هذا إلّا باستواء السّريرة والعلانية بأن يكون باطنه مثل ظاهره أو خيرًا من ظاهره.
وهذا كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إني واللّه ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم من معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها».
ثمّ في مقامات الدّين وهو أعلى الدرجات وأعزها كالصدق والخوف والرّجاء والتعظيم والزّهد والحبّ والتوكل وساير المكارم، فإن هذه الأمور لها مبادى‏ء ينطلق الاسم بظهورها ، ثمّ لها غايات وحقايق والصّادق المحقّق من نال حقيقتها.
قال اللّه تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] ، إلى قوله : {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] ، وقال عزّ و جلّ : {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة : 177] ، ثمّ قال : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ } [البقرة : 177]   إلى قوله : {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } [البقرة : 177].
(وسئل أبو ذر (رضي اللّه عنه) عن الإيمان فقرأ هذه الآية فقيل له سألناك عن الإيمان فقال : سألت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) عن الإيمان فقرأ هذه الآية).
ولنضرب للخوف مثلا فما من عبد يؤمن باللّه إلا وهو خائف من اللّه خوفاً ينطلق عليه الاسم، ولكنه خوف غير صادق أي غير بالغ درجة الحقيقة، أما تراه إذا خاف سلطاناً أو قاطع‏ طريق في سفره كيف يصفر لونه ويرتعد فرايصه‏(3).
ويتنغص عليه عيشه ويتعذر عليه أكله ونومه وينقسم عليه فكره حتّى لا ينتفع عليه أهله وولده ، وقد ينزعج عن الوطن فيستبدل بالأنس الوحشة وبالراحة التعب والمشقة و التعرض للأخطار كلّ ذلك خوفاً من درك المحذور ثمّ إنّه لا يخاف النّار ولا يظهر عليه شي‏ء من ذلك عند جريان معصية عليه.
ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله) «لم أر مثل النار نام هاربها ولم أر مثل الجنّة نام طالبها»(4) .
والتحقيق لهذه الأمور عزيز جدا ولكن لكل عبد منها حظ بحسب حاله إمّا ضعيف وإما قوي.
ثمّ درجات الصّدق لا نهاية لها ، و قد يكون للعبد صدق في بعض الأمور دون بعض فإن كان صادقا في الجميع فهو الصدّيق حقّا.
____________________


1- المعاريض في الكلام : التورية بالشي‏ء عن الشي‏ء و منه المثل : ان في المعاريض لمندوحة عن الكذب.
2- الشوب بالفتح الخلط و منه الحديث : يا معشر التجار شوبوا أموالكم بالصدقة كفر عنكم ذنوبكم م.
3- غرر الحكم و درر الكلم : ج 1 ص 258 ط الأعلمي.
4- إحياء علوم الدين : ج 4 ص 358.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد