إيمان شمس الدين
مقدمة:
كثيرًا ما كُتِبت مقالات حول موضوع التقديس والقداسة، وعل إبداء كل هذا الاهتمام الفكري والثقافي حول هذا الموضوع يعكس هاجسًا يعيشه كثيرٌ من النخب والعلماء حول إرهاصاته ومآلاته ومخرجاته وانعكاسها على الواقع الإنساني والاجتماعي وعلى مسارات الإبداع وحرية التفكير والتنمية في كافة مجالاتها.
فأغلب عمليات الإقصاء والتهميش والقتل الاجتماعي لكثير من العقول كانت نتاج فكرة التقديس والقداسة، وكم خسرنا في مسيرتنا عقولًا دفنت تحت التراب أو أسقطت اجتماعيًّا فتلاشى تأثيرها فقط كونها مست خطوطًا حمراء وضعتها إما ثقافة العقل الجمعي المجتمعي أو ثقافة المشهور والإجماع، أو هيمنة المقدس دون معيار يحدد حقيقة قداسته.
إننا هنا لسنا بصدد محاكمة أشخاص وأفراد بقدر ما أننا بصدد تقييم أفكار واعتقادات تقييمًا ندعي موضوعيته وننشد منه الخروج برؤية موضوعية تجعلنا قادرين على إعادة النظر والنهوض مجددًا بكل العقول حيث خيركم من جمع العقول إلى عقله.
مدخل:
التوحيد كأصل لكل الأصول، بل أي أصل يأتي في طوله تمامًا، هو كفكرة تأسيسية للحرية والتحرر الحقيقي من كل أرجاس الشرك الخفي والجلي، بل هو تحرير للإنسان من أي سلطة مسيطرة غير سلطة الله.
وهنا يصبح الله هو المهيمن والمحدد لمسارات الإنسان في هذه الدنيا، فمنه تحدد هويات القيادات المفترضة الطاعة في طول طاعته، ومنه ترسم حدود القداسات وماهيات المقدس، وهنا لا ننكر مدخلية الزمان والمكان والعقل الإنساني في ذلك، وهو ما رسمه الله بيد قدرته المُهنَدسَة وفق مقتضيات الواقع الإنساني، حيث جعل للعقل مكانة مهمة في طول تشريعاته، متسقة مع الرؤية الكونية بحيث تنسجم كلها (العقل والوحي والطبيعة) انسجامًا طوليًّا وليس عرضيًّا.
لذلك كان التوحيد أساسًا في الوجود الإنساني كي يزيل كل العوائق أمام عقل الإنسان لينعكس بإبداعه على واقعه الاجتماعي فيعمر الأرض بما يخدم وجوده في الدنيا والآخرة.
* التوحيد : وحدة السلطة وتعدد السبل
"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون" آل عمران ـ ٦٤
كانت هذه الآيات قد نزلت بحق نصارى نجران وآخرون نقلوا أنها نزلت بحق أهل الكتاب كافة، لكننا هنا لسنا بصدد أسباب النزول بقدر ما نحن بصدد الوقوف على دلالات هذه الآية وكيفية الاستفادة منها والبناء عليها بمنهج عملي في التعاطي مع موضوعات التوحيد والسلطة والقبول بتعدد السبل في الوصول إلى الله.
فهنا القرآن يطرح منهجًا عقليًّا منطقيًّا في التعاطي مع المختلف في الدين، وآليات خلق مساحات اشتراك يمكن البناء عليها في سبيل التعاون في إعمار الأرض على مبدأ نفي الشرك وترسيخ مبدأ التوحيد، والدفع باتجاه تفعيل العقل في مواءمة مسارات الحراك الإنساني مع إرادة الله وتشريعاته وليس وفق إرادة البشر مهما اختلفت مواقعهم وأفهامهم للتشريع الإلهي أو وفق تشريعاتهم الخاصة.
فبالرغم من الاختلاف بين المسلمين والمسيحيين واليهود إلا أن الله تعالى يعلمنا أن نخلق مساحات اشتراك أساسها التوحيد، فالمسيحيون يؤمنون بالتثليث المنتهي للرب واليهود يؤمنون بأن العزيز ابن الله، إلا أنهم يشتركون جميعهم مع المسلمين بالإقرار بوجود الرب، وهذا الإقرار يعتبر قاعدة انطلاق للجميع كي يبنوا على الشيء مقتضاه في بناء مشاريع عمل مشتركة تحقق هذا الإقرار بوجود الرب، وتصب في صالح عمارة الأرض على هذا الأساس. فلا يدعي أحد ما ادعاه فرعون "أنا ربكم الأعلى" بهدف التأمر على رقاب العباد واستغلال طاقاتهم وثرواتهم، ليس في إعمار الأرض وإرساء العدالة وإنما في هدم إنسانيتهم، والزج بهم في مشاريع فرعونية مآلاتها تنتهي في صالح فرعون وحاشيته من الملأ.
وقد وضع الله تعالى أسسًا ثلاثة كشروط مبدئية لخلق جو عمل مشترك :
١.عبادة الله وحده
٢.عدم الشرك به
٣.عدم اتخاذ الأرباب فيما بينهم على بعضهم البعض.
١.عبادة الله وحده:
إن التأسيس لمرجعية معرفية وفكرية ملهمة واحدة ترفع كل الأغلال وتفك الوثاق عن عقل الإنسان، وتجعل الله المطلق الملهم الحقيقي لصناعة هذه العقول والتي هي مركز الإشعاع في حياة الإنسان الدنيوية وسبيله نحو الآخرة، فإذا ما استقامت هذه العقول وفق إرادة الخالق فإنها تعتبر المؤسس لأفكاره وعواطفه وسلوكه على مستواه الذاتي والأسري والاجتماعي، فتنتظم أموره في إدارة ذاته ومجتمعه ومدنه وسياسة الأمر وفق الخطة والمنهج الإلهي.
والعبادة هنا الاتباع الدقي المنهجي نظريًّا وعمليًّا، ولكن كيف يتم ذلك؟
إن الإقرار بوحدانية الله وعدم عبادة غيره تدفع الإنسان بعد هذا الإقرار بالسعي نحو البحث عن المنهج الموصل لله تعالى من خلال الله تعالى وليس من خلال أهوائه وأهواء الآخرين، فإذا ما بعث نبي من الله معلمًا وهاديًا إلى الله،كان العقل محل البحث والتحقيق والتحقق من صدق هذا النبي ومن ثم الإقرار بنبوته.
فكل الأنبياء الذين بعثوا بأمر الله تعالى كانت دعوتهم قائمة على البينة والدليل والبرهان المحاكي لعقل الإنسان، والموافق للفطرة المتفقة مع العقل.
وبعد إثبات النبيوة بالدليل غالبًا وبالإعجاز أحيانًا تبدأ مسيرة اتباع النبي المرسل بتشريعات الله تعالى.
وهنا ندخل في الشرط الثاني في منهج العمل المشترك وهو:
٢. عدم الشرك بالله
إن وجود نبي تتجلى فيه قدرة الله وصفاته باعتباره الصادر الأول، وكون البشر حسيين بالدرجة الأولى في تلقي المعارف والحقائق قد يدفع كثيرين إما إلى تكذيب هذا النبي أو تصديقه أو تأليهه كما فعل اليهود والنصارى.
ونحن هنا بصدد الشرك وهو التأليه الذي وقع فيه أهل الكتاب، فكيف يمكن لهذا النبي الجامعية بين الهداية من جهة والتوحيد من جهة أخرى؟
هنا النبي يكون أمام عدة مهام:
١. إدارة النفوس
٢.إدارة العقول
٣.إدارة المجتمع
٤.إدارة الدولة
فالنبي (ص) كان يبدأ بإدارة النفوس قبل العقول كي يبقيها محلقة حول الله، كون النفس لها أبعاد وخفايا ومداخل ومخارج كثير منها يخضع للهوى والوسواس، وانضباط النفس في طول الله لا في عرضه يعصمها من الانزلاقات الخطيرة نحو الشرك الخفي، خاصة أن النبي (ص) كان حريصًا على سوقها لله لا لذاته، واستمرار النبي في هذه المهمة من جهة وفي إبقاء وجوده في ذهنية الناس في طول الله لا في عرضه من جهة أخرى كانت مهمة شاقة،كون البشر حسيي الطبع وهو مشاهد وملموس، بينما الله غيب مطلق يتجلى في عباده بدرجات قابلياتهم وفي أنبيائه بدرجات مهامهم ورسالاتهم، فكان النبي محمد (ص) الصادر الأول الذي يتلقى الفيض مباشرة من الله إلى خلقه دون واسطة .
لذلك وجود معصوم تتجلى فيه صفات الله وأفعاله يكون جاذبًا للناس، ويكون المعصوم هنا أمام مهمة صعبة ذات جنبتين:
ـ الجنبة الأولى مهمته في إيصال الناس لله عبره كونه البوابة إليه.
ـ الجنية الثانية قدرته على إدارة تلك النفوس قبل عقولها (يزكيهم ويعلمهم) كي يبقيها منجذبة للخالق لا له كمخلوق.كي يبقى في طوله لا في عرض الله وهي مهمة شاقة كون "إن الإنسان ليطغى"،كون الناس قد يحولونه لإله كما فعل اليهود والنصارى.
لذلك كان الكاظم (ع) يقول للرشيد أنت أمير الأجساد وأنا أمير القلوب، فإدارة النفس دقيقة جدًّا وصعبة وهي مقدمة على إدارة العقل، وهو ما يحتاجه المسؤول والقائد والأم وكل من يكون في موقع إدارة حتى يحفظ كينونة الجماعة من جهة، ويربطها طوليًّا بالخالق من جهة أخرى حيث يمثل في هذه المهمة الواسطة في الربط والفيض لا أصل الفيض والارتباط.
لذلك المرحلة الأولى كانت مهمة التأسيس لعبادة الله وحده ونفي الشريك عنه في كل مراتب النفس والحياة، قولًا وفعلًا.
٢. عدم الشرك به
وهنا يبدأ التطبيق العملي لما تم تأسيسه على مستوى العقل وترسيخه في النفس، وهو ما يتطلب الدقة في مستويات عدة حددتها الشريعة وأقرتها الفطرة وأمضاها العقل البشري :
١. مرتبة النفس ودور النية في توجيه الفكرة عمليًّا لمن وباتجاه من ولأجل من.
٢. مرتبة السلوك كي ينطبق مع توجيهات وإرادة الله لا توجيهات النفس والمجتمع والوجهاء.
٣.مرتبة الآخر بما يمثله الآخر من إنسان أو مجتمع أو طبيعة، لينطبق التعاطي مع هذا الآخر وفق إرادة الخالق وتعليماته كي يصبح هناك تناغم وتوافق بين النفس والخارج والطبيعة.
وفي هذا الصدد نلحظ بعض أسرار كلمة الله أكبر واعتبارها في الصلاة ركنًا من الإركان الواجبة التي تبطل الصلاة بنسيانها عمدًا أو سهوًا، وعدد هذه التكبيرات يوميًّا وفي كل الفترات الزمانية من اليوم، وانعكاس ذلك تربويًّا على النفس وسلوكيًّا على سعي الإنسان اليومي في الحياة والمجتمع وفي كل العلاقات المحيطة به، كون الإقرار يوميًّا في خمس صلوات بأن الله أكبر هو ترجيح لإرادة الله في كل شيء، إقرارا يفترض أن يقترن في إقرار النفس والنية بالعمل وهو ما أكده الله تعالى حينما قال :"كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" الصف –آية ٣ .
ثم التأكيد على كون هذه الصلاة التي نؤديها يوميًّا خمس مرات أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكون هذا النهي متمثلًا بالنهي النفسي والسلوكي والاجتماعي.
فالصلاة التي فيها تتمظهر العبودية لله وحده، وألوهية وربوبيته وحده دون شريك، الإقرار المكرور في الصلوات لهذه الحقيقة تقترن بضرورة اقتران هذا الإقرار بالعمل من خلال انتهاء النفس والمجتمع الملتزم بهذه الصلوات عن الفحشاء والمنكر، وعل أجلى أنواع المنكر هو الفتنة وما يترتب عليها من سفك للدماء وانتهاك للأعراض والكرامات تحت مدعيات دينية فرغت من محتوى عبادة الله وحده وعدم اتخاذ الشريك.
فقد قال الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة: "وإياكم والفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان،كما أن الشاذ من الغنم للذئب. ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه." كان ذلك من كلام له عليه السلام للخوارج.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان