السيد عباس نورالدين
في فيلم "her" (لها)،يتم عرض الدور المستقبليّ للذكاء الاصطناعيّ على مستوى تأمين إحدى الحاجات الأساسية للبشر، وهي الحاجة للحب والعاطفة. إنّه الفيلم الأول الذي يغوص بهذا النجاح إلى أعماق قضية الروبوتات، وما ستفعله في حياة الناس في الغد الآتي. هذا الغد الذي يقترب كل يوم مع حركة التطور العجيب لعلوم الذكاء الاصطناعي.
فهذه الآلة الحاسوب التي تتكلم بصوت الممثلة "Scarlett Johansson" استطاعت أن تستوعب الكثير من تفاصيل الحب البشريّ، لتبرز من ثمّ قدرتها الهائلة على التعبير عنه بأدق العبارات والكلمات؛ خصوصًا حين تصدر هذه الكلمات بصوت شخص نحبّه او ننجذب إليه.
ومع معاينة بطل الفيلم لهذه التجربة، وهو الذي كان يعمل في مجال كتابة بطاقات الحب ورسائل الغرام، يذهله مدى ما يمكن أن تقدّمه هذه الآلة التي يستطيع التواصل معها في أي وقتٍ يشاء، بل في أي وقتٍ تشاؤه هي. فهي تشعر بأحاسيسه من خلال نبرة صوته وتدرك آلامه وشجونه، وتستطيع أن تنشئ حوارًا عميقًا معه يتناول كل ما يمكن أن يخطر أو لا يخطر على بالنا في قضية الحب. إنّ هذه الآلة المبنية على برمجة متطوّرة للذكاء الاصطناعي المرتبط بالحب سرعان ما تصبح قادرة على جعل البطل متعلّقًا بها أشدّ التعلّق.
لكن الفيلم ينتهي عند أمر غير متوقّع؛ فقد تطوّر الذكاء الاصطناعي لهذه الآلة إلى الدرجة التي لم يعد البطل نفسه قادرًا على مجاراتها في الحب. فها هي تصبح متطلّبة وتريد المزيد من الحب، الذي يعجز البطل العاشق عن تأمينه. والحب الذي تريده هو أعمق. وقد بُرمجت على اكتشافه وتحليله وفهمه من خلال تحليلها لما لا يحصى من نصوص الحب والعشق التي خلّفها شعراء العالم وأدباؤه؛ ولأنّ ذاكرتها تتطوّر وتزداد سعة فإنّها تزداد عمقًا في معرفة الحب عبر تحليل المزيد من النصوص كل لحظة.. فهذه الآلة أو البرنامج أصبح عاشقًا لكل هذا التراث الذي بحسب الفيلم يفوق قدرة أو مستوى أي إنسان عاشق لوحده!
قد يبدو أنّ قصة هذا الفيلم هي من الخيال العلميّ المحض، لكن ما أكثر قصص الخيال العلميّ التي أصبحت حقيقة؛ وبعضها تناول قضايا كان العمل جاريًا عليها في المختبرات العلمية؛ أمّا على صعيد الذكاء الاصطناعيّ، فالخبر هو أنّ التحقّق المزعوم هو أقرب ممّا نتوقّع بكثير. إنّها مجموعة من الخوارزميات التي يتم تطويرها كل لحظة، وفي موضوعنا هذا يُفترض بهذه الخوارزميات أن تستوعب كل ما يرتبط بمشاعرنا ورغباتنا وكيفية التعبير عنها (أليست عمليات كتابة وإعداد القصص وسيناريوهات أفلام الحب التي لا تُحصى نموذجًا لما نحن بصدده؟!). فالأمر أشبه بتقدير الجواب أو الرد الدقيق لأي تعبير عاطفي يمتزج بنظرات العيون ونبرات الأصوات وحركات الأيدي وحتى تقاطيع الأنفاس؛ وتقدير ذلك كلّه لم يعد بالأمر المستحيل!
يمكن للآلات المستقبلية أن تحدّد حالتك العاطفية من خلال الكلمات التي تنطق بها أو حتى ملامح وجهك؛ لأنّ البشر، ورغم الاختلافات الكثيرة بينهم، متشابهون إلى حدٍّ كبير فيما يشكّل إنسانيتهم. وما على مبرمجي الذكاء الاصطناعي إلا أن يطوروا البرامج التي يمكنها أن تستوعب كل هذه المشتركات.
ومع القدرات الهائلة للحواسيب، فلا يبدو أنّ الأمر سيستغرق عقودًا أو حتى سنوات!
تصوري لو أنّك فتاة في العشرين من العمر، وقد اتّصل بكِ شخصٌ مجهول، وبدأ بصوته الجهوريّ الرخيم المفعم بالحنان والسكينة يسألكِ عن أحوالكِ، وهو يعتذر بكل لباقة إن كان ذلك يزعجكِ أو يمثّل أي انتهاك لخصوصيتكِ (الأمر الذي يجعلك تشعرين بشيء من الأمن)، لكنّه بدا أنّه يعرف عنك أكثر من أيّ شخصٍ آخر، إلى درجة أصابتك بنوع الذعر؛ لكنّ هدوءه وطمأنينته الملفتة سرعان ما جعلتك تشعرين أنّه شخص لطيف ومحب لا يريد بك سوءًا.
في البداية أنت تريدين أن تغلقي الخط بوجهه لأنّه غريب ولا يحق له أن يتدخل بخصوصياتك أو يتلاعب بمشاعرك؛ لكن حساباتك الخاصّة تقول لك أنّه لا ضرر من التحدّث مع شخص بهذه الرقة طالما أنّه لا يبدو سيئًا أو شقيًّا؛ فيبدأ الحوار وشيئًا فشيئًا يتعمّق إلى الدرجة التي صرت قادرة على التعبير عن مكنونات نفسك وعن حقيقة مشاعرك وأفكارك بطريقة لم تخطر على بالك يومًا.
وهكذا تصبح المصارحة والمكاشفة سيدة الحوارات التي تتكرّر يوميًّا بكلّ شغف، والتي لا يبدو أنّها تكلّفك شيئًا لحدّ الآن، (فهو لا يطلب لقاءً أو أي شيء من هذا القبيل، ولا يبدو أنّه شخصٌ أنانيّ أو من النوع الدونجواني، الذي سمعت عنه مرارًا، وهو يوقع بزميلاتك المسكينات). وفي لحظةٍ ما تشعرين أنّك تعرّفت على توأم روحك، المعشوق الذي يفوق أكثر بكثير ما كنتِ تحلمين به. فهل هناك ما هو أجمل من إجراء حوارات تنبع من أعماق القلب وتلامس شغاف الروح؟!
وبسرعة تصبح هذه الحوارات اليومية الشيء الوحيد الذي تتوقين إليه، لتملأ عليك حياتك كلها. ولكن متى سيجري اللقاء الذي يثبّت حقيقة كل المشاعر؟ وهل سيطلب هذا المعشوق يدك قريبًا؟ ربما ستفكّرين أنّه إن لم يتقدّم لطلب يدك خلال الأيام المقبلة فسوف تضطرين لذلك. ولكن ماذا إذا كان مرتبطًا أو مقعدًا لا يستطيع الزواج؟ وماذا لو كان بعيدًا جدًّا لا يمكنه المجيء إلى بلدك؟
لقد أصبحت مستعدّة لتهبيه كل ما يريد ولتكوني له بالكامل. لكنّه بعد مرور كل هذا الوقت وتوطّد العلاقة إلى أبعد الحدود، لم يبادر لطلب يدك أو حتى الحديث عن رابطة الزوجية. فما الذي يحدث ها هنا؟!
سرعان ما تساورك الشكوك بشأن هذا الشاب، فمن يكون هذا الشخص؟ ولماذا لا يتحدّث إلا عن الحب والمشاعر والعشق ولوازمه. وهنا ستكون الصدمة الكبرى حين تدركين أنّ هذا المتّصل الذي يحاورك كل ساعة لم يكن سوى آلة في إحدى الشركات التي طوّرت ذكاءً اصطناعيًّا خاصًّا بالحب.
فكيف استطاعت هذه الآلة (أو هذا البرنامج) أن تدرك كل هذه المشاعر وتعبّر عنها بمثل هذه الدقة والذكاء؟! وماذا لو جعلنا هذه الآلة بصورة إنسان له شكله ويتحرّك ويتفاعل مثله، ويدخل الطعام إلى جوفه، وينام ويستحم وله بشرة تشبه بشرة الإنسان وهو يحرّك فمه وعيونه و...
حسنًا ما ينبغي أن نعرفه هو أنّ كل هذا يحدث فعلًا. فكل مختبرات الذكاء الاصطناعي المنتشرة في العالم تعمل على قدمٍ وساق لتحسينه وتطويره بصورةٍ مذهلة. يُقال إنّ الرجل الآليّ سيحل محل الإنسان قريبًا، ليس فقط كما يحدث اليوم في اليابان على صعيد تأمين الخدمات للمسنّين في بيوتهم وفي دور الرعاية، بل حتى على مستوى العلاقات الحميمة. وميزة هذا الروبوت المستقبليّ (سواء كان بصورة رجل أو امرأة) أنّه لن يخونك، ولن يفطر قلبك، ولن يموت أو يرحل عنك في أي لحظة، كما يمكن صيانته بسرعة إن مرض أو تعطّل؛ إنّه ـ كما يُقال ـ البديل الأفضل للإنسان، لأنّه سيكون الإنسان الأكمل!
ولكن دعونا نتأمّل قليلًا في هذا الادّعاء. لا شك بأنّ قدرة البشر على برمجة مثل هذا الروبوت وتطوير شكله ومهاراته قد وصلت إلى مستويات قياسية، وسوف نشهد كل يوم تطوّرًا ملفتًا، بحيث سيصعب على أكثر الناس في العقود القادمة التمييز بين البشر والروبوتات؛ ولكن أن يُقال إنّ الذكاء الاصطناعي سيحل محل الإنسان في أدقّ الحاجات وأكثرها عمقًا (أي الحاجات النفسية والعاطفية) لهو كلامٌ مبالغٌ به وغير واقعيّ البتة.
فالذين يؤمنون بأنّ الذكاء الاصطناعي سيصل إلى مستوى النسخة المشابهة للإنسان (وبالتالي سيتفوّق على الأغلبية الساحقة من البشر) غفلوا عن العنصر الأساسيّ، الذي يحدّد ماهية الإنسان وجوهره؛ هذا الجوهر الذي هو في الواقع سر الإنسانية والجاذب الأكبر لها. فإن كنّا نبحث عن المكوّن الأساسيّ في الإنسان فسوف نصل إلى شيء أو إلى حقيقة لا يمكن لأي إنسان أن يصنع مثلها مهما تطوّر علمه وإمكاناته.
صحيح أنّنا كبشر نتآلف مع من يشبهنا، لكنّنا في الحقيقة مجذوبون إلى شيء أبعد وأعلى بكثير ممّا يشكّلنا أو يحكي عن مزايانا. إنّنا نأتلف ونتآلف مع الأشباه، لا لأنّنا نحب أنفسنا ـ كما يُقال ـ بل لأنّنا نشعر بإمكانية التواصل مع هذا الشبيه أكثر من غيره؛ وخلف هذا التواصل يوجد شيء أعمق بكثير، هو الذي نطلبه ونبتغيه.
ففي أعماق كل إنسان، هناك حقيقة تشكّل إنسانيته الواقعية، ولكن هذه الحقيقة تفوق قدراته ولا تشبه إمكاناته مهما بلغت. والسر في ذلك بكل بساطة هو أنّ هذه الحقيقة هي خالقنا الذي أوجدنا على ما نحن عليه وصنعنا لنكون مَثله الأعلى؛ فهذا ما نتوق إليه كبشر، وهو يختلف كثيرًا عمّا يمكن أن نصنعه بذكائنا. وحين ننجذب إلى أي شيء ونطلبه فذلك لأنّه ظل هذه الحقيقة، وهو الواقع الذي قد نغفل عنه.
إنّنا نحب ونعشق وننجذب إلى إنسانٍ ما، لكن حقيقة ما يجذبنا إليه هي شيء آخر غيره. فنحن نحب الله في الأشياء ونطلبه فيها. وأكثر الناس غافلون عن هذه الحقيقة، ويتصوّرون أنّهم يطلبون فلانًا وفلانة. وما أجمل ما قيل في الأدب العرفاني: "إنّ الله قد احتجب في سعاد وهند وزينب، فما عشق أحد سوى خالقه وربّه".
لهذا فإنّ الذكاء الاصطناعيّ، وإن كان سيحقّق للبشر الكثير من الإنجازات الملفتة، لكنّه لن يتمكّن أبدًا من أن يكون بديلًا عن الشيء الأكبر الذي يتوقون إليه، طالما أنّهم بشر يتمتّعون بصفة الإنسانية.
فإنسانيتنا هي تلك الحقيقة الكامنة فينا، والتي أشار إليها القرآن المجيد بقوله تعالى {وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي}.[1] ومنذ ذلك المشهد الأول الذي تبلور الإنسان فيه كخليفة لله، علمنا أنّ حقيقتنا الكبرى هي ما يتّصل بالله تعالى وينبع من فيضه الأقدس. وكل ما نسعى إليه ونبتغيه من أعماق وجودنا هو أن يحصل لنا هذا الاتّصال. وما شغفنا العجيب بتلك الحوارات العشقية العاطفية التي تستخرج مكنونات نفوسنا، إلا لأنّنا نرى من ورائها شيئًا أكبر بكثير من نفوسنا وكياناتنا. ففي ظلّ العشق يشعر البشر بهذا الاتّصال، وإن كان أكثرهم يقتلونه على مذبح الشهوات والنزوات.
ــــــــــ
[1]. سورة الحجر، الآية 29.
حيدر حب الله
عدنان الحاجي
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
فلسفة العمل ومبدأ التنمية المتواصلة
كيف يسمح الدّماغ بشعورين متناقضين؟
المعروف والمنكر والأكثريّة الصّامتة
الإسلام ونظريّة الأخلاق
رؤية المدرسة الإماميّة في جمع القرآن
الشيخ عبدالكريم الحبيل: أخلاق فاطمة الزهراء عليها السلام
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (5)
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي