الشيخ ناصر مكارم شيرازي
إذا تصوّرنا الحياة الدنيا بدون عالم الآخرة، لظهر لنا ان الدنيا لا تمثل شيئاً ولا معنى لها على الإطلاق، ويشابه ذلك تصور دورة حياة الجنين في بطن أمه دون أن يخرج من تلك الحياة إلى الحياة الدنيا.
إنَّ الجنين الذي يعيش في رحم أمّه، ويقضي في هذا السجن الضيق والمظلم شهوراً عدة، ليأخذه العجب حقّاً لو أنَّه أوتي عقلاً وحكمة ليفكر بهما في أمره وتلك المرحلة التي قضاها في سجنه ذاك:
لماذا أنا حبيس في هذا السجن المظلم؟
لماذا قُضي عليّ أنْ أخوض في هذه المياه والدماء؟
ما نتيجة ذلك؟
من الذي أرسلني؟ ولماذا؟
أما إذا قيل له: إنّك تقضي هنا فترة مؤقتة، تتشكل فيها أعضاؤك، فتقوى، وتصبح قادراً على الحركة والسعي في عالم كبير آخر، وإنَّ قرار خروجك من هذا السجن سوف يصدر بعد انقضاء تسعة أشعر، فتضع قدمك في دنيا فيها شمس ساطعة، وقمر منير، وأشجار خضر، ومياه جارية، وكثير من النعم الأخرى، عندئذ سيتنفس الجنين الصعداء ويقول: الآن أدركت الحكمة من وجودي في هذا السجن!
فهذه الدّنيا مقدّمة، أنَّها منصة القفز، أنَّها المدرسة التي تعدّ المرء لدخول الجامعة الكبيرة.
أما إذا قطعت علاقة حياة الجنين بالحياة في هذه الدنيا، لغرق كل شيء في الظلام ولم يعد له أي معنى، ولكان السجن رهيباً ومستقبل السّجين أليماً.
كذلك هي العلاقة بين الحياة في هذه الدنيا والحياة بعد الموت. ما الداعي الذي يدعونا أنْ نظل نتقلب في هذه الدنيا سبعين عاماً، أو أقل أو أكثر، متحملين العذاب والعناء، نقضي فترة أخرى ندرس ونتعلم، وما أنْ تنتهي مرحلة النضج والتعلم حتى نجد ثلوج الكهولة قد سقطت على رؤوسنا!
ثمّ ما الهدف من كل هذا؟ هل أننا وجدنا لكي نأكل ونلبس وننام، ثمّ لكي نكرر هذا عشرات السنين؟ هل أن هذه السماء الشاسعة، وهذه الأرض الواسعة، وكل هذه المقدمات والدروس واختزان المعلومات والتجارب، وكل هؤلاء الأساتذة والمربين، لم يكونوا إلّا للأكل والشرب واللبس في هذه الحياة المنحطة الرتيبة؟
هنا تتأكد عبثية هذه الحياة وفراغها عند أولئك الذين لا يؤمنون بالمعاد، لأنَّهم لا يمكن أن يتصوروا هذه الأمور التافهة هي الهدف والغاية من الحياة، وهم في الوقت نفسه لا يعتقدون بوجود حياة بعد الموت حتى تكون هي الغاية.
لذلك نجد أنَّ كثيراً من هؤلاء يلجئون إلى الانتحار للخلاص من حياة عديمة المعنى والهدف.
أمّا إذا صدّقنا أنَّ الحياة «مزرعة» الآخرة، وأنَّ علينا أنْ نباشر بالبذر هنا حتى نحصد الغلة في حياة أبدية خالدة.
وإذا علمنا أنَّ الدّنيا «جامعة» علينا أنْ نكتسب منها المعرفة لنعد أنفسنا للعيش في دنيا خالدة، وأنَّ هذه الدنيا ليست سوى «جسر» للعبور.
عندئذ لا تكون هذه الدنيا فارغة ولا عبثاً لا معنى له، بل سوف نراها فترة تمهيدية اعدادية لحياة خالدة وأبدية تستحق منّا أكثر من كل هذا الذي نبذله من أجلها.
نعم، إنَّ الايمان بالمعاد يمنح الحياة معنًى ومفهوماً، ويخلصها من «الاضطراب» و«القلق» و«العبثية».
الإيمان بالمعاد عامل تربوي
إنَّ للاعتقاد بوجود محكمة العدل العظمى في الآخرة تأثيراً كثيراً في الحياة، بالإضافة الى ما سبق قوله.
أفرض أنَّهم أعلنوا في البلاد أنَّه إذا ارتكب الناس أي جرم في اليوم الفلاني من السنة فلن يعاقبوا ولن يذكر ذلك في صحيفة أعمالهم، وأنَّ لهم أنْ يقضوا يومهم بكل اطمئنان، لأنَّ رجال الشرطة سوف يكونون في إجازة، وسوف تتعطل المحاكم، وعندما تعود الحياة العادية إلى مجراها الطبيعي في اليوم التالي فإنَّ جرائم اليوم السابق سوف تنسى.
لكم أنْ تتصوروا كيف سيكون حال المجتمع في ذلك اليوم!
إنَّ الإيمان بيوم القيامة هو الإيمان بدار عدالة عظيمة لا يمكن مقارنتها بمحاكم هذه الدنيا.
أمَّا خصائص محكمة العدل الإلهية فهي:
1- إنَّها محكمة لا تتأثر بالوساطات، ولا بالمحسوبيات ولا المنسوبيات ولا ينخدع قضاتها بالأدلة المزيفة.
2- إنَّها محكمة لا تحتاج إلى المراسيم والتشريفات السائدة في محاكم الدنيا، ولذلك فليس فيها تأجيلات وتأخيرات، بل تنظر في القضايا بسرعة البرق وتصدر أحكامها بمنتهى الدّقة.
3- إنَّها محكمة لا تستند إلّا إلى أعمال الشخص نفسه، أي إنَّ الأعمال تحضر هناك وتثبت علاقتها بفاعلها بحيث لا يمكن إنكارها.
4- إنَّها محكمة، الشهود فيها أعضاء المتهم: يده ورجله واذنه وعينه ولسانه وجلده، وحتى أرض الدار وأبوابها وجدرانها حيث ارتكب معصية أو أدى فروض الطاعة، وهم شهود لا يمكن إنكارهم كآثار أعمال الإنسان الطبيعية.
5- إنَّها محكمة قاضيها هو الله العليم بكل شيء، والغني عن كل شيء، والعادل الذي لا يضاهي عدله عادل.
6- وأخيراً، الجزاء في هذه المحكمة ليس محدداً من قبل، بل أكثر ما تحدده أعمالنا نفسها، إذ أنَّها تتشكل وتستقر إلى جانبنا، فتعذبنا أو ترفه عنا وتغرقنا في نعم الله.
إنَّ الايمان بوجود محكمة كهذه يؤدي بالإنسان الى أنْ يردد ما قاله الإمام علي عليه السلام:
«والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهداً، أو أجر في الأغلال مصفداً، أحبّ اليَّ من أنْ ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء، من الحطام ...» [نهج البلاغة، الخطبة 224]
إنَّ الإيمان بهذه المحكمة هو الذي يحمل علياً عليه السلام لأن يقرب حديدة محماة الى يد أخيه الذي كان يرغب بالمحاباة في بيت المال وعندما يرتفع صراخ الأخ يوجه إليه النصيحة قائلاً:
«ثكلتك الثواكل يا عقيل! أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه ...»
أيمكن أنَّ ينخدع إنسان له مثل هذا الإيمان؟
أيمكن بالرشوة ابتياع ضمير إنسان كهذا؟
أيمكن بالوعد والوعيد حرف مسيرته من طريق الحق إلى طريق الباطل؟
يقول القرآن المجيد:
﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [سورة الكهف، الآية 49]
وهكذا تنبعث في روح الإنسان موجة قوية من الإحساس بالمسؤولية إزاء كل عمل من أعماله تحول بينه وبين الضياع والانحراف نحو الظلم والعدوان.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع