السيد منير الخباز
ورد عن إمامنا زين العابدين علي عليه السلام عن طريق أبي حمزة الثمالي رضوان الله تعالى عليه، أنه قال في دعائه في شهر رمضان المبارك «إِلهي لا تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ، وَلا تَمْكُرْ بي في حيلَتِكَ، مِنْ اَيْنَ لِيَ الْخَيْرُ يا رَبِّ وَلا يُوجَدُ إلاّ مِنْ عِنْدِكَ، وَمِنْ اَيْنَ لِيَ النَّجاةُ وَلا تُسْتَطاعُ إلاّ بِكَ، لاَ الَّذي اَحْسَنَ اسْتَغْنى عَنْ عَوْنِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَلاَ الَّذي أساءَ وَاجْتَرَأَ عَلَيْكَ وَلَمْ يُرْضِكَ خَرَجَ عَنْ قُدْرَتِكَ» هذه الفقرات الشريفه تحتاج أن أنقف عندها لنتأمل في مضامينها الروحية.
الفقرة الأولى: «إِلهي لا تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ»
الأدب مطلوب فكل واحد منا يريد أن يتحلى بالأدب إلا أن التأديب الإلهي على قسمين:
1/ تأديب إبتدائي
2/ تأديب جزائي، وما يريده الإنسان هو التأديب الابتدائي لا التأديب الجزائي.
ورد عن النبي ”أدبني ربي فأحسن تأديبي“ وهذا تأديب ابتدائي بمعنى أن ما أطمح إليه أن تؤدبني قبل أن أفعل الذنب وقبل صنع المعصية، أن يحصل لي التأديب الابتدائي، فالتأديب الابتدائي هو عبارة عن أن الله يغمر العبد بالمنبهات التي توقظه إلى مزالق الرذيله قبل أن يقع فيها، التأديب الابتدائي هو أن يعطى العبد رشحة من البصيرة ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾، فالبصيرة هي أن يحصل الإنسان على منبهات وموقظات كلما مشى نبهه الله، هذا ما يسمى بالتأديب الابتدائي، تأديب يقيه من الوقوع والإنزلاق في الرذيلة، وأما التأديب الجزائي فهو قاس إذا انتظرني الله إلى أن أقع في المعصية وإلى أن أقع في الرذيلة ثم ضربني ضربة أراد بها تأديبي وأراد بها ان أرجع إلى رشدي وإلى فطرتي فهنا يكون التأديب الجزائي تأديباً قاسياً، لأن هذا التأديب الجزائي وإن كان رحمة منه تعالى فإن هناك من لا يؤدبهم أصلاً لا إبتدائاً ولا جزائاً، بل يتركهم في غيهم ويتركهم في عماياتهم ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ نسوا الله فنسيهم، هناك من لا يؤدبون أصلاً فلا ينالون شيئاً من رحمته، لكن هناك من يغمرهم برحمته فيؤدبهم فهؤلاء على قسمين:
من يؤدبهم ابتدائا فيقيهم من الانزلاق وينبههم على خطورة الحفر التي تعترضهم أثناء السير فهم أصحاب البصيرة «إنما تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر» أنصار الحسين يعبر عنهم بأهل البصائر، أهل البصيرة هم أهل التأديب الابتدائي والوقائي، وهناك من تدركه رحمة الله ولكن بعد أن وقعوا في المعصية بعد أن انكشفت سرائرهم بعد أن تلوثت أبدانهم وتوسخت ثيابهم جاءت الرحمة فأدبتهم، «إلهي أنا أطلب رحمتك» وكمال رحمتك أن لا تؤدبني التأديب الجزائي بل أن تأدبني التأديب الابتدائي «إِلهي لا تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ» بل أدبني برعايتك ابتدائاً منك ووقاية منك لي.
الفقرة الثانية: «وَلا تَمْكُرْ بي في حيلَتِكَ»
حيلة الله ما هي؟
حيلة الله هي الإستدراج، ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ حيلة الله في التعامل مع العبد أن يفتح له أبواب الدنيا، أن تدر عليه الدنيا ثروتها ونعيمها، فتنفتح له أبواب الثروة وأبواب الخير والصعود، هذا الانفتاح خطير لأنه استدراج ليراك الله كيف تتعامل مع الدنيا، ”إذا أقبلت بلت وإذا أدبرت برت“، إذا جعل الدنيا مقبلة للعبد فهذا استدراج وامتحان له، كيف يتعامل مع الدنيا هذا الإنسان الضعيف هذا الأسير مع غرائزه وشهواته إن هذا الانفتاح والاستدراج حيلة كبيرة، إلهي أنا قد تعرضني إلى حيلتك قد تفتح لي يا رب أبواب الدنيا فأتعرض إلى حيلتك كغيري، فهناك من تستدرجه بالثروة والمال، وهناك من تستدرجه من خلال القوة العسكرية، وهناك من تستدرجه من خلال السمعة وحسن الصيت، بأي نوع من أنوع الاستدراج، فإذا حصل استدراج لي فلا تمكر بي في ذلك الاستدراج «وَلا تَمْكُرْ بي في حيلَتِكَ»، المكر لا يصدر من منبع الفيض والرحمة والعطاء، من كانت ذاته عين الجمال وعين الجلال تبارك وتعالى فكيف يصدر منه المكر، مكره بمعنى حبس الفيض والرحمة، هناك أناس استدرجهم لكنه في الوقت الذي استدرجهم فيه غمرهم برحمته فهم مهما يتعرضون للإغرائات وللنوازع إلا أنهم في كل لحظه تُدركهم الرحمة ولكن هناك أناس أصروا على المعصية والرذيلة وأصروا على الانغماس في الدنيا ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ فلما أصروا على المعصية حبس عنهم الفيض فتركهم مع هذا الاستدراج وهذا الانفتاح، وخلى بينهم وبينه أنفسهم الأمارة بالسوء كان ذلك منه مكراً، هذا هو المكر بالمعنى المجازي لأنهم لا يستحقون هذا الفيض مع إصرارهم مع الرذيلة والمعصية «إلهي لا تَمْكُرْ بي في حيلَتِكَ» لو عرضتني للاختبار لا تحبس عني رحمتك ولا تحبس عني شفقتك ولا تبتعد عني وتتركني مع نفسي ولا تخلني مع شهواتي وغرائزي، أدركني في كل لحظة، وامنحني فيضك وعنايتك في كل آن.
«إِلهي لا تُؤَدِّبْني بِعُقُوبَتِكَ» طلبٌ للخير
«وَلا تَمْكُرْ بي في حيلَتِكَ» أنا أطلب الخير لكن هذا الخير كله منك وإليك
«مِنْ أيْنَ لِيَ الْخَيْرُ يا رَبِّ وَلا يُوجَدُ إلاّ مِنْ عِنْدِكَ» مقتضى السنخية بين العلى والمعلول، النور لا يصدر منه إلا النور والنار لا يصدر عنها إلا النار كل شئ يجود بما هو منسجم بذاته، وبما هو مناسب لطبعه الناري لا يولد إلا نارياً، والنوري لا يولد إلا نورياً ولذلك عندما يمدح النور ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ والناري يولد ناراً عندما يقول ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا «26» إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾، ﴿وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ﴾ المعلول من سنخ العلة ولأنك يا إلهي خير محض فلا يصدر عنك إلا الخير، الكمال لا يصدر إلا عنه الكمال، من أين لي الخير بل من أين للكون الخير كله لا خير الا منك وإليك «مِنْ أيْنَ لِيَ الْخَيْرُ يا رَبِّ وَلا يُوجَدُ إلاّ مِنْ عِنْدِكَ، وَمِنْ أيْنَ لِيَ النَّجاةُ» في كل وقت نحتاج إلى النجاة، النجاة من أي شئ؟
هناك عاملان يفتكان بنا في كل وقت:
1/ النفس.
2/الشيطان.
الشيطان ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «1» مَلِكِ النَّاسِ «2» إِلَهِ النَّاسِ «3» مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ «4» الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾
في كل آن تمر علي الوساوس الشيطانية هذا ذئب.
والذئب الآخر النفس ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ﴾ ولم يقل إن النفس ميالة ونازعة بل قال أمارة بمعنى تأمر وتلح، النفس ليس فقط الميلان، فالشيطان دوره دور إعداد الأرضية للنفس والحديث الفكري والوسوسة فإذا تعبدت الأرضية جاء دور النفس تأمر وتلح على الإنسان أن يُقدم على المعصية وتجره جراً نحو الرذيلة ولذلك عبر عن الإلحاح بالأمر ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ﴾ فأنا بين ذئبين ضاريين بين الشيطان والنفس، لذلك أنا أحتاج إلى النجاة في كل لحظة تمر أحتاج إلى النجاة من ينجيني من هذه الذئاب الضاريه حبائل الشيطان وقهر النفس «ومن أين لي النجاة ولا تستطاع إلا بك» التعبير في الدعاء الشريف في الفقرة السابقة قال من عندك وفي هذه الفقره قال بك «مِنْ أيْنَ لِيَ الْخَيْرُ يا رَبِّ وَلا يُوجَدُ إلاّ مِنْ عِنْدِكَ» ولم يقال إلا بك «وَمِنْ أيْنَ لِيَ النَّجاةُ وَلا تُسْتَطاعُ إلاّ بِكَ» ولم يقل ولا تستطاع إلا من عندك، لكلها تعبير مغزىً يشير إلى دقة ولطف العلاقة بين العبد وبين ربه، في مجال الخير عبّر بالعندية «من أين لي الخير يا ربي ولا يوجد إلا من عندك» المقصود بالعندية خزائن الرحمة، الخير أودعه في خزائن والعبد يغرف من تلك الخزائن ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾، «وَلا يُوجَدُ إلاّ مِنْ عِنْدِكَ» إشارة إلى وجود خزائن تحتضن الخير يغترف منها العبد، من أين لي الخير إلا من خزائنك التي أنشئتها وملئتها ولا يوجد إلا من عندك فالعندية نوع من العطاء والكرم، «وَمِنْ اَيْنَ لِيَ النَّجاةُ وَلا تُسْتَطاعُ إلاّ بِكَ» هنا تمتحي كل الوسائط وتحتاج إلى النجاة منه وبه مباشرة، هناك نفس أمارة لو تخلصت منها جاء دور وسوسة الشيطان ولو تخلصت من وسوسة الشيطان جاء دور سخط الملائكة علي، نتيجة تاريخي الأسود المملوء بالذنوب والمعاصي، كلما تجاوزت خطوة احتجت إلى النجاة، فالنتيجة ستنتهي الوسائل كلها إليك أنت فلا نجاة منك إلا بك، فأنت الجبار الذي أحذر عقوبتك فأنا أرجو النجاة منك إلا بك «لاَ الَّذي أحْسَنَ اسْتَغْنى عَنْ عَوْنِكَ وَرَحْمَتِكَ» أي حسن وعطاء مرجعه إليك، حتى الصلاة الواجبة بتوفيقه وكذلك الصدقة لولا توفيقه.
أوحى الله إلى نبيه موسى ”يا موسى اشكرني حق شكري“ قال إلهي كيف أشكرك حق شكرك وكلما وصلت إلى شكرٍ علمت أنه نعمت منك، حتى شكري هو منك قال ”الآن شكرتني حق شكري“.
«وَلاَ الَّذي أساءَ وَاجْتَرَأَ عَلَيْكَ وَلَمْ يُرْضِكَ خَرَجَ عَنْ قُدْرَتِكَ» أساء: مرتبة، اجترأ: مرتبة أعلى، لم يرضك: مرتبة ثالثه، فالعبد يتطور في المعصية، كما أن الطاعه درجات المعصية أيضاً درجات:
الدرجة الأولى: هي الإساءة «أنا الذي أسأت أنا الذي أخطأت أنا الذي اعتمدت أنا الذي تعمدت أنا الذي سهوت أنا الذي تركت» اقترفت المعصية لكن هل اقتراف المعصية بجرأة أو بغلبة الشهوة، «ما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك ولا بنكالك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولا مستخف ولكن أنا الضعيف أمام نفسي وأمام غرائزي ولكن سولت لي نفسي وأعانني عليها شقوتي» فأنا أسأت ولا تجرأت لكني أسأت لغلبت نفسي علي.
الدرجة الثانية: هي الجرأة، الشقي من تطور من الإساءة إلى الجرأة، الشقي من يفعل المعصية غير مبال بها ولا ملتفت بحرمتها، «إلهي أنا صاحب الدواهي العظمى أنا الذي على سيده اجترى، أنا الذي عصيت جبار السماء أنا الذي أخذت على معاصي الجليل الرُشى أنا الذي حين بشرت بها خرجت إليها أسعى»، هذه المرحلة الخطيرة أن أصل إلى الجرأة.
المرحلة الثالثة: لم يرضك، مع ذلك هو الرحيم والمشفق يقول ”يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله“ وصلت إلى مرحلة الجرأة أن أنتشلك وآخذك، إن الله يغفر الذنوب جميعاً، قف أمام ربك وقل ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، «أنت الذي فتحت باب إلى عبادك باباً سميته التوبه فقلت توبوا إلى الله فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه»، الغافل عن الدخول وصل إلى هذه المرحله «وَلاَ الَّذي أساءَ وَاجْتَرَأَ عَلَيْكَ وَلَمْ يُرْضِكَ خَرَجَ عَنْ قُدْرَتِكَ» أين نمضي نحن تحت قدرته لا إله إلا هو الحي القيوم، وفي الحديث القدسي «عبدي إن لم يعجبك قدري وقضائي فأخرج من أرضي وسمائي» لا يمكن الخروج عن قدرته وسلطانه.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفسنا بأنفاس التوبة، وأن يعطر قلوبنا بالمغفرة والرحمة، وأن يزيل عن أرواحنا غشاوة الذنب والمعصية، وأن يجعلنا من الأنفس المتعلقه بعز قدسه، وأن يرفع عنا حجب الظلمه ويسبغ علينا أنوار رشحاته وهباته وأفضاله في شهر الهبات شهر رمضان.
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد باقر الصدر
السيد محمد باقر الحكيم
الشيخ باقر القرشي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
عدنان الحاجي
الشيخ محمد الريشهري
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان