مقالات

عليّ عليه السلام... نموذج الزهد الأرقى (1)

الإمام الخامنئي "دام ظلّه"

الزُّهد زينة علي عليه السلام:

هناك العديد من الرّوايات الحاكية عن مناقب أمير المؤمنين عليه السلام وفضائله. بدايةً أُشير إلى أنّ ما رُوي في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام لا يقتصر على الشّيعة فقط، بمعنى أنّ الشّيعة ليسوا وحدهم من يرويها أو يأنس بها1. الكثير من فضائل ومناقب أمير المؤمنين عليه السلام يرويه أيضاً غير الشّيعة في كتبهم، فالكثير من المسلمين همّ من المُحبّين والمُريدين والتّابعين لأهل بيت النبوّة الكرام عليهم السلام، ولا سيما ذاك الإمام عظيم الشأن.

إحدى الروايات هي عن "ابن المغازلي" الكاتب الشافعيّ المعروف، الذي يروي في كتابه - وراوي هذا الحديث ليس شيعيّاً - عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ عليّ بن أبي طالب يُضيء في الجنّة لأهل الجنّة، كما يظهر كوكب الصّبح لأهل الدّنيا"2، معناه أنّ نور ذلك العظيم يغلب في الجنّة أيضاً على سائر الأنوار. وهذا الكاتب نفسه، يروي عن عمّار بن ياسر أنّه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ بن أبي طالب عليه السلام: يا عليّ، إنّ الله قد زيّنك بزينة لم يُزيّن العباد بزينة أحبّ إلى الله منها، الزُّهد في الدنيا"3، أي عدم الرغبة بالدّنيا والإعراض عن تلك المظاهر الخادعة التي يلتذّ بها الإنسان، هذه هي الزينة التي أعطاها الله تعالى لعليّ عليه السلام. فليس المقصود هنا إعمار الدّنيا ولا إحياء الأرض وتزيينها بالزّينة الإلهيّة حتى يستفيد منها عباد الله - وهو ما كان أمير المؤمنين عليه السلام سبّاقاً إليه -، ولكن المقصود بالدنيا هو ما أعددناه - نحن وأنتم - ممّا هو في الأرض لحظوظ النفس ولذّاتها، من مأكل ومشرب ومركب (سيّارة)، أو من شهوات جنسيّة، وهذه هي الدنيا المُشار إليها في الرّوايات. ومن الطبيعيّ، فإنّ الاستفادة بمقدارٍ ما من هذه الأمور مباحٌ، ولعلّه ممدوحٌ أيضاً، أمّا ما نُهينا عنه فهو الغرق في تلك الدنيا السيّئة والخبيثة.

إذاً، الزُّهد في الدّنيا هو زينة عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

ثمّ يقول في بقية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّه قال لعليّ عليه السلام: "وَجعَل الدّنيا لا تنال منك شيئا".

والرواية الأخرى التي تُنير قلوب محبّي ذلك العظيم هي رواية "الموفّق الخوارزميّ الحنفيّ"، وهو أيضاً من كتّاب أهل السنّة، وله كتابٌ في المناقب.

ينبغي الاستعداد لنكون عمليّاً من أتباع تلك الشخصيّة العظيمة، وليس بالاسم فقط.

يروي الموفّق أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعليّ عليه السلام:

"يا عليّ، إنّي سألتُ ربّي فيك خمس خصال فأعطاني، أمّا أوّلهن فسألتُ ربّي أن تنشقّ عنّي الأرض، وأنفض التراب عن رأسي وأنت معي فأعطاني، وأمّا الثانية فسألتُ ربّي أن يوقفني عند كفّة الميزان وأنت معي فأعطاني، وأمّا الثالثة فسألتُ ربّي أن يجعلكَ حامل لوائي، وهو لواء الله الأكبر، عليه المُفلحون الفائزون في الجنّة، فأعطاني"، يتّضح من هذا الحديث النبويّ أنّ هناك في يوم القيامة ألوية، وأنّ كلّ جمع من الخلائق يُحشرون تحت أحد هذه الألوية، "وأمّا الرّابعة فسألتُ ربّي أن تسقي أُمّتي من حوضي فأعطاني، وأمّا الخامسة فسألتُ ربّي أن يجعلك قائد أُمّتي إلى الجنّة فأعطاني"، أي أنت في المقدّمة وأُمّتي خلفك تقودها إلى الجنّة، والله قَبـِل ذلك، ثمّ يختم الرواية بقوله: "الحمد لله الذي منَّ عَلَيَّ بذلك"4. وهنا نرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشكر الله على ما منَّ به من المقامات المعنويّة على عليّ بن أبي طالب عليه السلام، والحقُّ أنّه لا مقام يرقى ليصل إلى هذا المقام5.

أمير المؤمنين عليه السلام قمّة الزهد:

وَقَعَ اختياري اليوم على رواية وَرَدَت في كتاب الإرشاد للشيخ المُفيد، إلا إنّني نقلتُ نصّها من كتاب "الأربعون حديثاً" للإمام الخميني قدس سره، وهو كتابٌ مهمٌّ جداً، وطابَقْتُهَا مع ما ورد في كتاب الإرشاد.

يقول الراوي: "كنّا عند الإمام الصادق عليه السلام، فجرى ذكر أمير المؤمنين عليه السلام ومَدَحَهُ بما هو أهلُه" (أي الإمام الصادق عليه السلام).

ورأيتُ أنّ كلّ فقرة من الفقرات التي يستند إليها الحديث تشير إلى بُعدٍ من أبعاد شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام، كزهده وعبادته والخصوصيّات الأخرى التي سأعرضها. فالإمام الصادق عليه السلام يمتدح - طبقاً للرواية - أمير المؤمنين عليه السلام وأوّل جملة قالها، هذه: "والله ما أَكَلَ عليّ بن أبي طالب عليه السلام من الدّنيا حراماً قطّ حتى مضى إلى سبيله"6، أي إنّه لم يضع في فمه لقمةَ حرام، وكان يتجنّب أكل الحرام والمال الحرام، ويتجنّب المَنَال الحرام، أي إنّه كان يبتعد حتّى عمّا فيه شبهة. لاحظوا، لقد بيّن المعصومون عليه السلام هذه الأمور كأصولٍ للعمل، وكنموذجٍ وقاعدة، وأكثر من ذلك على مستوى الفكر والثقافة. وقد أقرّ الإمام الصّادق والإمام الباقر والإمام السجّاد عليه السلام بأنّهم لا يستطيعون تحمّل عيش أمير المؤمنين عليه السلام، فما بالك إذا وصل الدّور لأمثالي؟ فواويلاه!

ليس الكلام، هنا، أنّه هل يمكننا أنا وأنت العيش هكذا، لا، فتلك الحياة هي قمّة الحياة، والإمام يُشير إليها. ومعنى الإشارة إلى القمّة، أي على الجميع أن يسيروا في هذا الاتّجاه. ولكن من الذي يستطيع بلوغ تلك القمّة؟ في ذلك الحديث يقول الإمام السجاد عليه السلام: أنا لا أستطيع العيش على ذلك النحو.

ـــــــــــــــ

1- ونستثني من ذلك القلّة الذين يُعدّون على أصابع اليدّ، ولا يُعرف إذا ما بقي منهم أثرٌ أو أنّ لهم وجوداً - يعني النّواصب والخوارج-، وأمّا بقيّة المسلمين فهم من محبّي أمير المؤمنين عليه السلام.
2- ابن الغزالي، المناقب، ص140-185. وفي مصادر أخرى: شرح الأخبار والعمدة والإقبال والبحار.
3- الموفق الخوارزمي، المناقب، ص113 / مناقب المغازلي، ص105، مع اختلاف بسيط.
4- المناقب، م. س، ص 294.
5- من كلام الإمام القائد في خطبة صلاة الجمعة، 27/3/1992.
6- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج1، ص68، باب استحباب الجد والاجتهاد في العبادة، ح18.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد