مقالات

الإمام زين العابدين (ع) (2)

الشيخ محمد العبيدان

وكانت آخر إثارة مارسها الإمام(ع) لإثارة الرأي والوعي العام الإسلامي وإطلاعه على المحنة التي أصابت الرسالة متمثلة في واقعة الطف، عندما وصل المدينة، فأقام خارجها، وأمر شاعراً أن ينعى الحسين وصحبه إلى أهل المدينة، ففعل الرجل، وهب الناس مذعورين، وتجمهروا عند الإمام(ع) فخطبهم موضحاً طبيعة المأساة التي ألمت بأهل بيت الرسالة(ع)، الممثلين الحقيقيـين للمنهج الإلهي،كما بين مظلومية أهل البيت، وما لاقوه من الظلم الأموي.

الثانية: المنهج الإصلاحي الجديد:

بعد مغادرة الإمام زين العابدين الشام إلى المدينة المنورة مروراً بالعراق، اختط(ع) منهجاً جديداً لحركة الإسلام الإصلاحية.
وقد اتضح للإمام السجاد(ع) بعد واقعة الطف أن الأمة في حالة من الركود والتبلد، ما جعل الروح الجهادية عندها في حالة غياب، إن لم تكن معدومة نهائياً.
ولهذا نجد أن الإمام(ع) أخذ هذه الظاهرة بعين الاعتبار، وبنى خططه في تسيـير الأمة على ضوء ذلك.

ولذا عمد إلى إنماء التيار الرسالي في الأمة، وتوسيع دائرته في الساحة الإسلامية، فسعى إلى بدء ثورة روحية، وثقافية في دنيا المسلمين ،وقد ساعدته على ذلك بعض الظروف الموضوعية فأدت إلى نجاح خطته مبكراً.

وأهم تلك العوامل عاملان اثنان نشير لهما:
العامل الأول:

الاضطراب السياسي والاجتماعي الذي تفجر في أكثر مراكز العالم الإسلامي أهمية وتأثيراً بعد مأساة الطف مباشرة، وأهم مظاهره:
1-ثورة المدينة المنورة سنة 63 للهجرة، بقيادة عبد الله بن حنظلة الأنصاري، وكانت تعبيراً من الأمة لرفض الحكم الأموي، وقد طردوا بني أمية من المدينة، وفي طليعتهم مروان بن الحكم، وقد أرسل يزيد لإخماد الثورة مسلم بن عقبة، الذي يحلوا لبعض المؤرخين تسميته بمسرف، وبعد حصار منه للمدينة وقتال بينه وبين الثوار تمكن من دخولها، ودنس حرماتها، كما هو معروف تفصيل ذلك، وقد عرفت هذه الواقعة بواقعة الحرة.
2-ثورة مكة المكرمة بقيادة عبد الله بن الزبـير، حيث استفاد كثيراً من النقمة التي حصلت بعد قتل الحسين(ع)، فأعلن ثورته، وانضم له بعض الخوارج والفارين من المدينة وغيرهم.
وبعد محاصرة من الأمويـين لمكة، بقيادة الحصين بن نمير السكوني، وضربهم الكعبة بالمنجنيق، وإحراقها، فأثار ذلك حفيظة المسلمين، وحظي ابن الزبير بتأييد آخر من المسلمين، وفي هذه الأثناء هلك يزيد فخف الضغط على ابن الزبـير، ووسع رقعة حكمه.
3-حصول الخلاف في البيت الأموي بعد هلاك يزيد فيمن يتولى السلطة بعده، خصوصاً وأن ولده معاوية تنازل عن الحكم بعد أربعين يوماً ثم مات في ظروف غامضة.
وقد انقسموا إلى قسمين، أيد بعضهم مروان بن الحكم، وكان القسم الآخر يدعو لاستخلاف بن الزبير، وقد انتصر الفرع المرواني، بعد وقوع معركة بين الطرفين.
4-قيام ثورة التوابين، بقيادة سليمان بن صرّد الخزاعي، والتوابون هم جماعة من أهل الكوفة، بلغ بهم التـذمر والأسى لقتل الحسين(ع) حداً حملهم على حمل شعار وجوب التكفير عن ذنبهم، لعدم نصرتهم له(ع).

وذلك إما بقتلهم لقتلته، أو بالموت تحت ذلك الشعار، وبالفعل قد غزا هؤلاء بلاد الشام، لكن تصدى لهم الأمويون بعدة أكثر وجيش أكبر، وكان ذلك سنة 65 للهجرة، وانتصروا عليهم.
5-ثورة المختار الثقفي، في عام 66 للهجرة، استولى على الكوفة وطرد والي ابن الزبير منها، وأباد جميع قتلة الإمام الحسين(ع)، وعلى رأسهم عبيد الله بن زياد، الذين حمتهم سلطة ابن الزبـير.

ولم يدم حكمه طويلاً حيث تفاقم الموقف وازداد سوءاً، بينه وبين قوى ابن الزبير، التي زحفت على الكوفة وأسقطت حكومته، وقتلته.
ونجد الإمام السجاد(ع) قد التـزم إزاء هذه الأحداث استراتيجية الابتعاد، عن أي موقف يلفت السلطات أو يثيرها نحوه، كما أنه(ع) لم ينضو تحت أي لواء قط، مهما كان لونه، وأهدافه، لمعرفته السابقة بالنهاية لكل منها،كنتيجة طبيعية لضخامة القوى الدموية وشراستها، التي يقودها الأمويون، كما أن عقد اجتماع الأمة منفرط ومنحل، تغيب عنه الروح التنظيمية، بشكل كلي بين صفوفها، فلم يقو هو ذاته أن يوحد صفوفها.

فلاحظ الخلاف بين سليمان بن صرّد الخزاعي، والمختار الثقفي، حول تحديد المواقف والإستراتيجية في عملهما لمواجهة الوجود الأموي.
كما أن التيار الزبـيري كان في تصاعد، وهو تيار مضاد لأهل البيت(ع) وللبيت الأموي معاً، مضافاً للنهاية التي علمها(ع) لكل حركة من هذه الحركات، كما أشرنا له قبل قليل.
ولهذا كان يرى(ع) أن الاشتراك في مثل هذه الأمور تعني تصفية الخط الرسالي الذي يمثل الإسلام الصحيح.

فتصرف(ع) بما كان شأنه أن ينأى به بحسب الظاهر عن الفتن، طوال تلك الفتـرة، فغادر المدينة المنورة لما نشب الصراع، بين الثوار والأمويـين، حتى أن القائد الأموي تظاهر بإجلاله واحترامه حين اقتنع بعدم اشتـراكه في الثورة، ولهذا السبب أيضاً لم يجب(ع) دعوة المختار له عندما فاتحه بشأن الثورة.

وهكذا بقي(ع) متمسكاً بمنهجه الذي خطه وهو النهج الإصلاحي والتوعية العامة الفكرية، والتوجيه الروحي، والخلقي، فقط لعلمه أن هذا هو الطريق الطبيعي والشرعي لحماية رسالة الله سبحانه وتعالى، وحفظ البقية من أهل البيت(ع).
وقد استفاد الإمام(ع) في إنجاح خططه الإصلاحية تلك، من انشغال بني أمية، بالوضع المتدهور والانتفاضات الإسلامية الرافضة.

هذا ولا يعني ذلك وجود وفاق بين الإمام(ع) وبين بني أمية خلال تلك الفتـرة، بل ظل الخصام بينهما، بحجم الخصام بين الحق والباطل، وقد ظل موقفهم منه(ع)متحفظاً حذراً طوال حياته(ع).

العامل الثاني:

التجاوب النفسي من قبل الناس مع أهل البيت(ع)، سيما الأقاليم الإسلامية الأكثر أهمية وتأثيراً في الوجود الإسلامي، كالكوفة، والمدينة ومكة والبصرة، بل حتى الشام في الجملة.
كل ذلك نجم من شعور الأمة بمظلومية أهل البيت(ع)، مضافاً للأبوة المعنوية التي لمستها الأمة من الإمام(ع)، من خلال توجهه الكلي نحو التغيـير الروحي، والفكري للأمة، وتوطيد علاقتها مع الله سبحانه وتعالى، والرسالة الإلهية، والارتقاء بها إلى أعلى المستويات.
هذا وقد استفاد الإمام(ع) من مظاهر التعاطف الجماهيري مع أهل البيت(ع)، نتيجة للسياسة التي مارسها، وفقاً لأطر ثلاثة، من إنجاح الحركة الإصلاحية في ذلك الوقت:
الأول: توسيع القواعد الشعبية التي توالي أهل البيت(ع)، وتكثيف التعاطف معهم، وتحويله إلى ولاء حقيقي فاعل.

الثاني: العمل على رفع مستوى الوعي الإسلامي لدى الأمة.
الثالث: خلق قيادات فكرية متميـزة،تحمل الفكر الإسلامي الصميم، لا الفكر الذي يدور وفقاً لمقتضيات السياسة والطاغوتية التي يقودها الحكم الأموي.
ولقد نجحت خطط الإمام السجاد(ع) على شتى المجالات، وكما خطط لها هو(ع).
هذا والشاهد على ما نقول بعض النماذج التي نقلها لنا التاريخ، فمثلاً على صعيد القواعد الشعبية، نجد القضية التي أنشد فيها الفرزدق قصيدته العصماء، كما نقل المؤرخون كيفية حدوثها، فراجع المصادر التاريخية.

ونجد ارتفاع مستوى الوعي عند الأمة، من خلال دراسة نشاطه التعليمي، حيث استقطب(ع) في داره، وفي المسجد طلاب المعرفة، في جميع حقولها، في الساحة الإسلامية كاملة، واستطاع خلق نواة مدرسة فكرية، لها طابعها ومعالمها المتميزة، تخرج منها ثلة في القمم الفكرية، والفقهية والحديثية.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد