مقالات

حال الصّادق في الحبّ والعشق!

يقول أحد الأكابر: كنتُ في طريق الحجّ فنزلتُ ببغداد، وكنتُ في سوق بغداد إذ رأيتُ شاباً وسيماً على رأسه قصبة المعلّمين وهو يرتدي حلّة كتانية ونعلين مذهّبين ويمشي بغُنج وتبختر وخيلاء على طريقة الظرفاء، وبيده تفّاحة يشمّها.

ويوم تحرّكت القافلة ذهبتُ أنا أيضاً، وفي منزل آخر رأيتُ الشاب منتعل القدمين، يلفُّ على رأسه عمامة مصرية، وينثر على نفسه ماء الورد، كمن يذهب إلى الرّياض مختالاً.

فكّرتُ مع نفسي وقلت: إنّ في شأن هذا الشاب سرّاً أو معشوقاً يذهبون به إليه، أو هو عاشقٌ يوصلونه من منزل الحاجة إلى خلوة الدلال.

تقدّمتُ إليه وسألته: إلى أين تذهب أيّها الشاب؟ قال: إلى البيت. قلتُ: أيّ بيت؟

قال: إلى بيت الأعذار (بيت الله تعالى حيث يعتذر إليه الخلق) الذي تشرّد بسببه خلقٌ كثير، أنا أيضاً أذهبُ لأرى إلى أين يذهب الهائمون؟! ومن سوف يُلاقون؟! وكم عنقوداً في هذا البيدر؟!

قلتُ: أيّ استعدادٍ للطريق هذا الذي أرى (وهو بهذا الشكل المذكور سابقاً)؟!، ألم تسمع بصعوبات البادية؟!

قال: إنّ الحبيب يُريد لنا التشرّد، فكان الذهاب إلى الحجّ حجّة.

قلتُ: ارجع أيّها الشاب. قال:

أنا لا أذهبُ خلفَهُ (المعشوق) باختياري ذانك الوثاقان العنبريان يسحبانني

قلتُ: ولم تشمّ هذه التفاحة؟ قال: لتقيني من سموم البادية، فإنّي تطبعتُ على شمّ أوراق الورد، وكنتُ أنا في حريم أحضان العشّاق، وتفتحتُ عن نسيم إقبال الأحبّة.

قلتُ: تعالَ لنترافق. قال: لا والله، أنتَ تلبس البرقع، وأنا أحتسي الشراب (يقصد شراب الحبّ والعشق)، أنتَ شيخٌ مناجاتي (السائر بقدم الخوف)، وأنا شيخ مستهتر في الخرابات (السائر بقدم الرجاء)، كنتُ أمس ثملاً (في حبّ المحبوب) وما زلتُ أعيش حالة الثمالة.

 

فتركتُ الشاب في نفس ذلك المكان ومضيت، ولم أره بعد ذلك حتى رأيته في أحد الأيام نائماً تحت الميزاب لفرط الحرّ، وكان قد شحب وبدا عليه الضعف والتعب والعناء والهزال، لا قصبة المعلّمين على رأسه، ولا النعلان المذهّبان في قدميه، ولم يبق له إلّا التفاحة يشمّها!!

أردتُ أن أمرّ منه، فقال: أتعرفني يا فلان؟ قلتُ: نعم، حدّثني عن تبدّل حالك؟

قال: يصرخون في هذا الطريق على معشوق ويورطونه في العشق.

قلتُ: هذه نفس التفاحة؟ قال: آه، آه من هذه التفاحة، السالبة الراحة، أرأيتَ ما صنعوا بنا يا فلان، فبعد أن ركلونا بأقدام الغلبة قال الأوّل: لا تهتم فإنّه معشوق.

وعندما بلغوا بادية الامتحان قالوا: أنت عاشق.

وعندما وصلتُ عرفات، قالوا: أنت طفل.

وعندما وصلتُ إلى البيت قالوا: لست في هذا الحرم أجنباً.

وكلما طرقتُ الباب وصرختُ: "يا أيها المطلوب" سمعت: "ارجع يا خائب".

احترقت واحترقت وعرفتُ أنّه ليس في هذه المعزوفة إلّاه، فأنا اليوم يا فلان عاجز ضعيف ومن الدلال آيس، لا أدري هل أنا طالبٌ أم مطلوبٌ، محبٌ أم محبوبٌ، محتاجٌ أم غير محتاج، واحترقتُ بهذا التفكير والحزن، فلستُ بمريض ولكنّي مريض هذا الفكر!

 

يقول راوي القصة: فاحترق قلبي لحال ذلك الشاب، فقلتُ: تعال لأذهب بك عند الأصحاب وأخلّصك من هذه الحيرة.

قال: اتركني فإنّ لي في هذه الحيرة سرّاً، وفي هذا الفكر ذوقاً وشغفاً.

انشغلتُ في الليل بالعبادة في حوالي المسجد الحرام، وعندما أردتُ في الصباح أن أنوي وداع البيت رأيتُ عند الحطيم ذلك الشاب السقيم ميتاً وقد حملوه على الأكتاف وهم يذهبون به.

سألتُ عن حالته أحد المحرمين فقال:

العشّاق قتلى المعشوقين لا تسمع من المقتولين صوتاً

ــــــــــــــــــــــــ

المصدر: كتاب "الخزائن" للمولى أحمد بن محمد مهدي النراقي رضوان الله عليهما

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد