ووصلنا إلى مكة..
وكانت الساعات الأولى من الليل قد انقضت ونحن في الطريق، وتوجهنا نحو البيت الذي خصص لنزولنا، وهو غير بعيد عن الحرم والحمد لله، فألقينا أمتعتنا وجددنا الطهارة ثم تهيأنا للذهاب الى الكعبة، من أجل الإتيان بطواف العمرة، وهناك طلب منا أن ننتظر لكي نتناول العشاء، وبعد ذلك نذهب مع مجموع الحاجات وبحراسة من بعض مساعدي المتعهد، ولكن أترانا نتمكن من الانتظار؟ وكل جارحة من جوارحنا قد استحالت إلى لهفة، وجميع مشاعرنا أخذت تنطق بالحنين، فلقد كنا على موعد مع جبار السماء، لنطوف حول الكعبة طالبين الغفران، ولنسعى بين الصفا والمروة مبتغين الرضوان، عندما يعيش الإنسان في انتظار لقاء محبب إليه لا يعود يهنأ بشيء قبل أن يتحقق له ذلك اللقاء، فهو يستحيل بجميع وجوده إلى لهفة وانتظار، وهل هناك ما هو أحب إلى الإنسان من ساعة رحمة وآونة غفران؟ ولهذا فقد عز علينا الانتظار، ولماذا ننتظر يا ترى أمن أجل غذاء؟!
ولكن ما أهمية الغذاء المادي بالنسبة للغذاء الروحي الذي ينتظرنا هناك، أم من أجل الحصول على حراسة الحارسين؟ أو لم يقل إمامنا جعفر الصادق (ع) في وصيته لمن يريد الحج إلى بيت الله الحرام: (ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوتك وشبابك ومالك مخافة أن يصير ذلك عدوًّا ووبالًا، فإن من ادعى رضا الله واعتمد على شيء سواه، صيره عليه عدوًّا ووبالًا، ليعلم أنه ليس له قوة ولا حيلة ولا لأحد إلا بعصمة الله تعالى وتوفيقه) إذن فليس هناك ما يدعونا إلى الانتظار. وانطلقنا نحن بمجموعتنا الصغيرة نحو بيت الله الحرام، وكان الطريق الذي يفصل بيننا وبينه عبارة عن سوق يسمى بسوق الليل، وهو مليء بزخارف الحياة التي عرضت للأبصار بشكل يساعد على الإغراء.. ولكن.. أترانا كنا نبصر من هذه الزخارف شيئًا؟ أم ترانا كنا نتحسس آثار وجودها ونحن مندفعات نحو بيت الله الحرام، تسبقنا الآمال بالغفران وتحدو بنا الأماني لنيل الرضوان؟...
إنها رحلة.. تلك الخطوات.. رحلة الإنسان الذي هرب إلى الله عز وجلّ من ذنوبه تائبًا، وعلى أخطائه نادمًا، رحلة الإنسان الذي يستشفع إلى الله قائلًا (إلى من يذهب العبد إلا إلى مولاه، وإلى من يلتجىء المخلوق إلا إلى خالقه) وقاربنا البيت المبارك، وكنا نهبط في طريقنا إليه لأنه في واد بين الجبال والمرتفعات. ولكنه هبوط جسمي يبعث إلى الارتفاع الروحي، ويبلغ أسماعنا دوي السعادة، وهم في مسيرتهم المباركة بين الصفا والمروة، وكان لذلك الدوي المبهم الكلمات أعظم الأثر في الترهيب والترغيب، فهل حقًّا أننا على بضع خطوات من بيت الله الحرام؟ وهل حقًّا أن هذه النوافذ الحديدية المرتفعة تطل على أقدس بقعة خلقها الله، وتشرف على أول بيت وضع للناس؟ وهل حقًّا أن هذا الوجود الضعيف قد انطلق بآثامه وأخطائه هاربًا من الله الى الله، وها هو قد أوشك أن يحظى بالمثول أمام كعبة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ إنها نعمة لا يكاد يصدقها الإنسان لنفسه، وهذا الدوي الذي كلما دنونا نحوه أكثر تكشف عن كلمات تقول (الله أكبر لا إله إلا الله. الحمد لله. لا إله إلا الله وحده وحده. أنجز وعده ونصر عبده. وغلب الأحزاب وحده) هذه الكلمات هي التعبير الواضح عن كل ما يشتمل عليه الحج من شعارات ومفاهيم، الوحدانية لله والخضوع لعبوديته والتوكل عليه، والثقة بنصره لعباده الصالحين.
ووقفنا أمام الكعبة وكانت وقفتنا من الجهة المقابلة للحجر الأسود، حيث يجب أن يبدأ الطواف من هناك وكان المطاف محتشدًا جدًّا، لا تبدو منه سوى رؤوس رفعت وجوهها نحو السماء، ترتجي الرحمة من العلي الأعلى، وتهتف في قنوط المساكين قائلة (اللهم إني إليك فقير، وإني خائف مستجير، فلا تغير جسمي ولا تبدل اسمي).. ولاحظت صعوبة الطواف وهو في قمة ازدحامه، وتلفت حولي أتطلع إلى الوجوه التي تقف إلى جانبي، وأدرس مدى تمكنهن من خوض هذا البحر البشري الزاخر، فأسعدني وإراحني أن أجد اللهفة لديهن قد طغت على كل شيء، فأمدتهن بطاقات من الإرادة والتحمل والثبات والإصرار على بلوغ الهدف بأي ثمن، فسمّينا بسم الله الرحمن الرحيم، وتراجعنا قليلًا عن مواجهة الحجر الأسود لنطمئن من مرور جميع جسمنا أمامه ثم.. اندمجنا مع مجموع الطائفين..
وبدأنا نفقد الإحساس بصعوبة السير وسط الحشد الهائل، ولم نعد نبالي بما نتعرض إليه من ضيق، بعد أن اندمجت جميع مشاعرنا في ترديد هذه الكلمات (اللهم أدخلني الجنة برحمتك، وأجرني برحمتك، يا ذا المن والطول والجود والكرم، إن عملي ضعيف فضاعفه لي، وتقبله مني، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم البيت بيتك والعبد عبدك وهذا مكان العائذ بك من النار).. وكنا كلما أكملنا دورة واحدة عددناها مع بعضنا بصوت مسموع لكي نتجنب الشك والنسيان، فليس بغريب أن يندمج الإنسان الطائف مع أهدافه وعطاءاته فينسى العدد والحساب ويبقى يدور ويدور وكأنه لا يريد الله يترك دورته حتى يستوثق من الغفران، ولهذا كنا نهتم بحفظ العدد وإتقانه، فإن الطواف هو رمز لدوران الإنسان حول غاية يؤمن بها أو هدف يسعى إليه، فهو يلف حولها لكي يبدأ من حيث ينتهي، وهو يشعر الإنسان أنه انطلق من الله وسوف يعود إلى الله، وأنه دار ضمن حدود وأبعاد رسمها الله عز وجل، فليس له أن يتعداها فينقص منها أو يزيد، إن دورته حول هذا الرمز الإلهي ترسم له حدود تحركاته في الحياة، فهو إذ يتحتم عليه هنا أن يدور بأقدام ثابته ينقلها من فوق الأرض باختياره، يتحتم عليه أيضًا خلال دورته الكبرى في دوامة الحياة أن لا تزل به قدم، أو يندفع وراء غاية دون رؤية أو استبصار، وهو في دورته المقدسة هذه إذا اندفع إلى الأمام بدون خطوات ثابته، عليه أن يعود من النقطة التي ارتفعت فيها قدماه عن الأرض، يعود ليبدأ سيره من جديد، وكذلك الحال في مسيرة الحياة، فإنه متى ما تعدى حدودها باندفاع او انحراف له أن يعود ليباشر سيره من جديد، وفقًا للحدود التي حددها له الله عز وجل. وذلك ما يسمى بالتوبة، إنه رمز يطبع بطابعه جميع تحركات الإنسان في حياته القادمة خلال جميع مجالاتها وأبعادها،
وأكملنا دوراتنا السبع وقد كانت النهاية من حيث البداية، وهي مواجهة الحجر الأسود، وكما احتطنا فتأخرنا عن الحجر في البداية، فقد احتطنا وتعدينا موضعه المبارك قليلا في النهاية.. ثم انسحبنا من بين الجموع ونحن نحاول أن يكون انسحابنا هادئًا لا يعيق طواف الطائفين، وخرجنا وكل جارحة من جوارحنا تنطق بالحمد لله رب العالمين.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان