مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشهيدة بنت الهدى
عن الكاتب :
ولدت الشهيدة آمنة بنت آية الله السيد حيدر الصدر (بنت الهدى) عام 1356هــ 1937م في مدينة الكاظمية، عرفت بالذكاء الوقاد، وسرعة الحفظ، وقد لعبت دوراً فعالاً وملموساً في هداية الفتيات، مارست عملها التبليغي عبر إلقاء المحاضرات والكتابة في مجلة "الأضواء" ثم مارست كتابة القصة لمخاطبة الجيل الناشيء بأسلوب قصصي بسيط، من مؤلفاتها: الفضيلة تنتصر، ليتني كنت أعلم، امرأتان ورجل، صراع مع واقع الحياة، لقاء في المستشفى، الخالة الضائعة، الباحثة عن الحقيقة ،كلمة ودعوة، ذكريات على تلال مكة، بطولة المرأة المسلمة، المرأة مع النبي (ص) . استشهدت مع أخيها السيد محمد باقر الصدر عام 1980.

ذكريات على تلال مكة (6)

وقضينا ثلاثة أيام في مكة بين زيارة وطواف، حتى عصر اليوم الثامن من شهر ذي الحجة الحرام، حيث كان علينا أن نذهب إلى عرفات.. ومع أن وجوب الوقوف في عرفات يبدأ من زوال اليوم التاسع وينتهي عند الغروب، ولكن عادة الحجيج هي الخروج إلى عرفات عصر اليوم الثامن أي يوم التروية. وذهبنا بعد الظهر إلى الحرم المبارك، وجلسنا أمام الكعبة الشريفة ننتظر الغروب، وسرح بي الفكر إلى الواقع الرائع الذي نعيشه، أفتراها كانت حقيقة واقعية جلستنا تلك؟

 

وراق لي أن أكتب بضع كلمات على ورقة صغيرة، حاولت أن أصور بها ما أعيشه من أفكار، إنها أعز كلمات كتبتها خلال سفرتي تلك، لأنها كتبت عن كثب من الكعبة، وانطلقت من أشرف بقعة في أقدس مكان، وارتفع صوت أذان المغرب هاتفًا بكلمة العزة الخالدة . الله أكبر .

 

لا شيء أكبر من الله، هذا الكبر الذي يقره الإنسان لجبار السماء يشعره بالصغار أمامه تبارك وتعالى، ولكنه صغار تجاه الخالق، وتواضع تجاه المخلوقين، إذ إنه عندما يعترف أن الله أكبر لا يعود يحس بكبر أحد سواه، وهذا ما عناه الشاعر محمد إقبال في قوله «سجدة للإله تنجيك يا إنسان من ألف سجدة للعبيد» أية متعة هذه التي تسمو بروح الإنسان فوق كل شيء لأنه لا يعود يحتاج لشيء سوى الله؟ وأية صفة هي عنده التي ترتفع بمعنويات الفرد المؤمن حتى لا يعود يخضع لأحد أو يتنازل لأحد لأن الله وحد أكبر؟ ..

 

ومن هنا نعرف مدلول الحديث النبوي الشريف الذي يقول «من أعطى الذل من نفسه فليس منا» واستجبنا للنداء الخالد، فتوجهنا للصلاة على مقربة من الكعبة، وذلك لأن البيت كان غير مزدحم لكثرة من خرج إلى عرفات من الحجاج، وبعد أن انتهينا من الصلاة، عقدنا نية الإحرام للحج قائلات «نحرم لحج الإسلام أداء قربة إلى الله تعالى».. وخرجنا من الكعبة متوجهات نحو البيت الذي ننزل فيه.. وهناك وإلى جوار المنزل، كانت تقف سيارات النقل حيث سارت بنا نحو عرفات..

 

كان الطريق الذي يفصل بين مكة وعرفة ليس بالطويل أو البعيد، ولعله لو اجتيز في الحالات الطبيعية، لما استغرق أكثر من نصف ساعة مع أكثر التقادير، ولكنه وفي تلك الليلة المزدحمة بالحجاج، كان لا يكاد يقطع إلا بعد جهد جهيد وزمن طويل. ولهذا سلك السائق بنا طريقًا ملتويًا، علّه يكون أقلّ زحامًا وأكثر انفتاحًا، ولكن يبدو أن سائقنا لم يكن الوحيد الذي قصد هذا الطريق، إذ وجدناه والحمد لله غاصًّا بالسيارات زاخرًا بالحجاج. فدعونا الله أن يعظم شعائره، ويزيد من هداية القلوب التي تهفو إليه، ووصلنا أخيرًا إلى عرفات.

 

وكان ظلام الليل يضاعف من هيبة تلك الصحراء التي لا يرى فيها سوى خيام بيضاء، امتدت بينها شوارع رملية تتطلب الهداية إليها إلى خبير ممن مارس طبيعة التربة، ونشأ على بساطها الطاهر، وتوقفت بنا السيارات إلى جانب أحد الشوارع، ونزلنا منها نحمل في يد حقيبة ضمت ملابس الإحرام الاحتياطية، والسجادة والمصحف وكتاب الدعاء، ونحمل في اليد الثاني إبريقًا فارغًا لتهيئة الماء، وسرنا وراء دليلنا نلف حول بعض الخيام، وننعطف مع انعطاف الممرات التي بينها، حتى وصلنا إلى حيث الخيمة التي أعدت لنا...

 

دخلنا الخيمة لنجدها مضاءة بالكهرباء، ولكنها غير مفروشة.. فتصاعدت من حولنا أصوات احتجاج قائلة ما هذا؟ كيف نجلس؟ كيف سوف ننام؟ هذا وضع عجيب! فآلمنا أن نسمع كلمات الاحتجاج هذه بالنسبة لافتقاد مواد ترف لا تأثير لها على طهارة تلك البقعة أو قدسية تلك الليلة. ولكننا تمكنا والحمد لله وبشكل غير مباشر أن نشيع في الخيمة جوًّا من الدعاء والابتهال، ولم تمض مدة طويلة حتى فرشت لنا الخيمة بالسجاد والرياش، ومع ما كان لهذا الفراش من راحة جسمية، فقد شعرت بأنه شيء مرغوب فيه لواقع الحياة، فهو يذكرنا من جديد بالحرص على نعومة العيش والتسابق على ما هو أحسن من وسائل المادة، ولكن «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق»..

 

وأصبح علينا الصباح ونحن في عرفات، وهو الموقف الوحيد الذي يتحتم أن يؤمه الحجاج في وقت واحد، وخلال ساعات معينة منذ الزوال وحتى الغروب.. فيا لها من حكمة في التشريع، تهيىء للمسلمين فرصة إجبارية للاجتماع والتعرف على بعض، فيتمكن الإنسان المسلم خلال تلك الساعات أن يدرس عن كثب أخلاق أخوته المسلمين وعاداتهم وأفكارهم، ويتطلع على ما لديهم من جديد في مجالات العلم والعمل، ثم إن المسلمين خلال ذلك ليتمكنوا وبسهولة أن يبحثوا مع بعضهم أهم مشاكلهم العامة، ويضعوا لها حلولًا مستقاة من حكمة الآخرين وتجاربهم.. هذا لو أديت شعائر العبادة في الحج بمضمونها المطلوب طبعًا، وقد جاءت عدة تفاسير للسبب الذي من أجله سميت هذه البقعة بعرفات، ومن بينها تعارف المسلمين على أرضها المقدسة، ومنها أنها البقعة التي تعارف عليها آدم وحواء بعد هبوطهما من الجنة، ومنها أنها البقعة التي نزل فيها جبرئيل على نبي الله إبراهيم، وقال له اعترف لله بما لديك. وبما أن التفسير الأول هو أكثر الثلاثة صحة وأقربه إلى الواقع الذي تدل عليه سائر أعمال الحج، فنحن نأخذ به ولكن ومع كل الأسف.. مع وقف التنفيذ فلماذا؟ لأن هذا المفهوم غير واضح في أذهان الحاج، منهم لا يعرفون من عرفات سوى جانب الصلاة والدعاء من العبادة، ولهذا فإن أي إقدام على ذلك يعد تطفلًا غير مستساغ، اللهم إلا في مجالات خاصة جدًّا..

 

وانقضت ساعات النهار الأولى والجميع بين دعاء أو صلاة أو قراءة قرآن.. والحقيقة أن ساعات الحج في عرفات لا تكاد توازى بثمن، لأنها بجميع دقائقها عطاء حيث يحلق الإنسان بروحه بعيدًا عن عوالم المادة وخدعها وغرورها، فيروح يعترف بآثامه تارة ويستغفر منها أخرى، وهو يتضرع إلى الله تعالى قائلًا «اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك».

 

وكيف يمكن لإنسان أن يعبد ربًّا لم يره؟ إنه يراه بالدلائل، فإن قصرت الباصرة عن رؤيته، فيجب أن لا تقصر البصيرة عن ذلك، وهل تعرف السعادة إلا بتقوى الله.. إن تقوى الله هي التي ترسم للمتقي طريق الخير في الحياة، وتحدد له خطوط مسيرته الفاضلة، حيث توجد منه فردًا صالـحًا جديرًا أن يكون نواة للمجتمع الصالح، ثم ينطق بحقيقة الشد الذي يشده نحو مولاه، ويعترف بانقطاعه التام لرحمة الله الواحد القهار، إذ يبسط يده بالدعاء قائلًا: «أنت كهفي حين تعييني المذاهب في سعتها، وتضيق بي الأرض برحبها، ولولا رحمتك لكنت من الهالكين».. وهكذا هو الإنسان ـ هذا الإنسان التائه في عالم الغرور الراكض في حياته وراء السراب الذي خيل إليه أنه سوف يخرق الجبال طولًا.. هذا الإنسان لا يشعر بحماية الله له وحاجته إلى الله، إلا عندما تعييه المذاهب وتضيق به الأرض. عند ذلك يتوجه إلى القوة الوحيدة القادرة بعد أن يستشعر عجز ما عداها عن حمايته. وقديـمًا قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:  «ادع الله في الرغبة كما تدعوه في الرهبة» ومن خلال هذه الدعوات يستشعر الحاج انقطاعه إلى الله، فيروح يدعوه بلسان أوبقه ذنبه وأخرسه جرمه قائلًا «فها أناذا يا إلهي بين يديك يا سيدي خاضع ذليل حقير» شعور مطلق بالانقطاع الكامل التام لله تبارك وتعالى، حيث لا مناص من الاعتراف بالذنب، ولا فكاك من الشعور بالتقصير، وحيث لا يعرف بهذا الشعور أو بذاك الاعتراف سوى الله وحده.. ولهذا نجد أن ساعات الحاج في عرفات، هي ساعات بناء للروح وصهر للافكار وتعقيم للقلوب، وهي بالنسبة لمن هو في مستوى الحفاظ على مكاسبها الثرّة، واستند لها بالشكل الصحيح، مرحلة انتقال من الظلمات إلى النور، وطريق ارتقاء من الحسن إلى الأحسن، فيا لها من ساعات، ومن العجيب أن نجد هناك من يحمل هـمًّا لطعام أو شراب أو فراش أو مهاد، الشيء المادي الوحيد الذي يحرص عليه الإنسان هناك، ويتمنى لو حصل على مزيد منه، هو الماء نعم الماء. لأنه الوسيلة الوحيدة إلى الطهارة، والطهارة هي من شروط صحة العبادة. والماء لم يكن وافرًا بالشكل المطلوب، لأن المنطقة هناك لم يكن قد امتدت نحوها أنابيب الإسالة.. وكان على متعهد القافلة أن يهيىء الماء للحجاج.. كان موضوع الماء مشكلة تثير الخوف لدينا من نفاده.. والمشكلة الثانية كانت المرافق الصحيحة!! حيث يتعذر على الإنسان الدخول إليها والخروج منها سالـمًا من النجاسات، وحيث كان حجاج ثلاثة أو أربعة من المتعهدين يقفون في انتظار أخذ أدوارهم، والمرافق لا تتعدى المرفقين أو الثلاثة..

 

وانقضى النهار، وفي آخر ساعة منه باشر العمال في جمع الخيام مقدمة لنقلها إلى منى، وجلسنا كل إلى جوار أمتعتها تحت السماء وفوق الرمال، وكنا خلال تلك الساعة نشعر بحسرة الوداع لهذه البقعة الطاهرة، وتلفتنا حوالينا علنا نتمكن أن نحتفظ بأكثر مقدار ممكن من الذكرى، وحان وقت الغروب، فأدينا الصلاة، وتناولنا شيئًا من الأكل، ثم نادى المنادي بنا قائلُا ـ هيا نحو السيارات ـ فقد كان علينا أن نتجه من هناك إلى «المشعر الحرام».

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد