مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطهراني
عن الكاتب :
عُرف بين الناس باسم العلامة الطهراني، عارف وفيلسوف، ومؤلف موسوعي، من مؤلفاته: دورة المعارف، ودورة العلوم، توفي عن عمر يناهز الواحد والسبعين من العمر، سنة 1416 هـ.

الميزان في تقييم العمل (1)

قال الله الحكيم في كتابه الكريم: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}. معنى الحجّة والبيّنة واضح، وكذلك معنى الكتاب؛ فالكتاب عبارة عن منظومة من الأحكام والقوانين والدساتير الأخلاقيّة، وهو تبيان للمعارف الإلهية التي تقود الناس إلى التوحيد.

ولكن ما معنى الميزان في هذه الآية المباركة؟ وما معنى إنزال الميزان؟ فالميزان هو التقييم والمعيار، فكيف كان هذا الميزان عند الأنبياء؟ وكيف كان لدى كل نبيّ ميزان؟ وسوف أمهّد بمقدمة، حتّى نصل إلى معنى الميزان وتفسير حقيقته.

 

الألفاظ وضعت للمعاني العامّة

هناك قاعدة قد قررّها العلماء وهي: أنّ الألفاظ وضعت لمعانٍ عامّة، فعندما يستعملون لفظاً ما، فليس ذلك الاستعمال للمعنى الخاصّ وإنما هو للمعنى العام. ففي ذلك الزمان كان السّراج عبارة عن شريط يوضع في الزيت ويوقد رأسه ويشتعل ويتصاعد منه الدخان، وهو ما كانوا يسمونه سراجاً، ثمّ بعد أن استبدل الزيت بالنفط، وضعوا الشريط في النفط ووضعوا عليه زجاجة محدّبة، ثم سمّوه سراجاً أيضاً، من دون أن يكون هناك فرق بين المعنى الأوّل والمعنى الثاني، فتسميتهم للمعنى الأول سراجاً لا تفترق عن تسميتهم للمعنى الثاني سراجاً.

يتضّح إذاً أنّ لفظ السّراج لم يوضع لغة وعرفاً لخصوص ذلك الشيء المتكوّن من الزيت والفتيل، وإلا لانحصر معناه فيه، ولما صحّ لنا أن نسمي السّراج النفطيّ سراجاً، وللزم أن نضع له اسماً آخر، وكذلك حينما اختُرع السّراج الغازيّ، صاروا يطلقون عليه كلمة سراج، وكذلك السّراج الكهربائيّ والإلكترونيّ، فقد سمّوه سراجاً، وبدون أيّ تصرّف أو عناية أو توجيه أو قرينة، فنفس ذاك اللفظ الذي كانوا يطلقونه على السراج الزيتيّ والنفطيّ يطلقونه الآن على السراج الكهربائي.

كلّ ذلك يجعلنا نستنتج: أنّ وضعَ لفظ "السّراج" لغةً إنّما كان لمعنى عام، وهو ذاك الشيء الذي يعطي الضوء والنور ويرفع الظلام ويبدّده، وهو ما يقضي الإنسان بواسطته مآربه وحوائجه، ويتمكّن من خلاله وبواسطته أن يرى في الظلام، وهذا هو المعنى العام، فهو معنى واسع ينطبق على الجميع دون تفاوت ولا عناية، ويصدق على السراج الزيتيّ القديم أو السراج النفطيّ أو الكهربائيّ..

ونحن إنّما جئنا بلفظ "السّراج" كمثال على المسألة، وإلا فجميع الألفاظ موضوعة على هذا النحو من العموم، كلفظ الإنسان، أو لفظ الحيوان، لفظ العمارة والعمران، لفظ الظلمة، كلمة الميزان، كلمة الكتاب.. وجميع الألفاظ كذلك قد وضعت لمعانٍ عامة.

ومن هذه الألفاظ كلمة "الميزان"، فالميزان يعني آلة التقدير والتقييم.

يمكن أن يُصنع الميزان من كفّتين، وتربط أطراف كلٍّ منهما بسلسلة أو حبل ثم يضعونه فوق المحور (إبرة الميزان ومحوره)، فيصير كلٌّ من الكفتين والمحور في الأسفل، وهذا ما يطلقون عليه الميزان، وكذلك صنعوا القبّان الذي لم يكن فيه أكثر من كفة واحدة، وسمّوه ميزانًا.

ولو توسّعنا في هذه المعاني شيئاً مّا، فسوف نلاحظ أنّ لفظ الميزان يستعمل في أمور ليست هي من الأجسام أصلاً، كما في الطاقة الكهربائيّة الموجودة في جميع المنازل والتي مصدرها تلك المحطّة الكهربائية الكبيرة للمدينة، فيضعون العدّاد ويسمّون العدّاد ميزاناً، يعني هو آلة التقييم لمقدار الاستهلاك الكهربائي، وهذا هو الميزان، الذي يحدّدون به كمّية الكهرباء، ويقيسون به قوّة التيّار الكهربائيّ، ويقيسون به كمّية الطّاقة.

كذلك من خلال الميزان يعرفون قوّة الـ "إلكتروموتوري" للكهرباء، وذلك بواسطة الـ "أمبيرمتر" والـ "فولت متر" وذلك بواسطة ميزان خاص. وكذلك يقيسون حرارة الجسم بواسطة الميزان الخاص به، ومثله ميزان ضربات القلب، وميزان ضغط الدم.. فيسمّون كلّ ذلك "ميزانًا" إلا أنّ كلاً بحسبه، ولكلٍّ خصوصياته التي تختلف عن الآخر، فميزان ضغط الدم يختلف عن الشيء الذي يوزن به الحطب، وميزان حرارة جسم الإنسان يختلف عن الإسطرلاب الذي يعيّنون بواسطته اتّجاه النّواحي والمناطق المرتفعة ومواقع النّجوم، إلا أنّها مع اختلافها تشتمل على حقيقة واحدة موجودة في جميعها، فالميزان هو الذي بواسطته نحدّد مقدار الأشياء وكميّتها.

 

ما هو ميزان الأمور المعنوية

فهل لدينا ميزان نحدّد به مقدار العقل؟ نقيس به مقدار الشجاعة؟ نحدّد مقدار العفّة؟ نحدّد مقدار التضحية والإيثار؟ نحدّد مقدار العدالة، نحدّد مقدار حفظ حقوق الآخرين، نحدّد مقدار درجات العبوديّة ومراتبها، نحدّد مقدار درجات معرفة الله وإدراك حقائق التوحيد.. أم أنّه لا يوجد مثل هذا الميزان؟ فهل لهذه الأمور وحدة قياسيّة أم لا؟

نعم، لها ميزان إلا أنّه ليس كالموازين الماديّة، وليس له كفتان، ولا هو كميزان حرارة الجسد، فما هو هذا الميزان إذاً؟ يجيب القرآن:{وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} أي حينما قمنا ببعث الرسل، أرسلنا مع كلٍّ منهم كتاباً كالتوراة والانجيل.. صحف إبراهيم.. كتاب نوح.. القرآن، وكذلك أرسلنا ميزاناً، فما هو ذلك الميزان؟ ذاك الميزان عبارة عن مستوى معرفة الرسول وإدراكه وفهمه، وملكاته وخصائصه، فهو كتاب الله والعامل بالقوانين والشرائع التي أنزلها الله إلى عباده.

فقد أرسل الله الكتاب، ولكن من الذي يفهم الكتاب؟ ومن الذي يدرك كنهه؟ ويعرف شأن نزوله.. تفسيره.. تأويله.. باطنه.. ظاهره.. ناسخه.. منسوخه.. المطلق.. المقيّد.. العام.. الخاص.. المجمل.. المبيّن.. من الذي يدرك كلّ ذلك؟ الذي يدرك ذلك هو الشّخص الذي أحاط بأسرار الكتاب، بحيث صار وجوده ميزاناً ومقياساً من الناحية التشريعيّة، فنفس وجود هذا الشخص ميزانٌ لبيان تلك الأحكام التي وردت في الكتاب الإلهي الـمُرسل إلى المجتمع البشري. هل اتضح معنى الآية؟

 

أمير المؤمنين هو المعنى الحقيقي للميزان

لقد ورد في القرآن الكريم: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ - أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ - وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}.

المعنى الظاهريّ للآية واضح وجليّ، إلا أنّها تشتمل على معنى باطنيّ، وهو ما يمثّل تفسير هذه الآية وتأويلها. فقد وردت روايات عديدة في تفسير القرآن كتفسير الكافي، والعديد من التفاسير الأخرى، وكذلك في كتاب معاني الأخبار وفي مقدمات تفسير الصّافي حيث تعرّض لذكرها المرحوم الفيض، هذه الروايات تبيّن المراد من الميزان وتذكر أنّه هو أمير المؤمنين عليه السلام، ليصير معنى الآية المباركة: أنّ الله رفع السّماء، والسّماء هي حقيقة الوجود المقدّس للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم، ووضع الميزان، يعني نصبَ أمير المؤمنين، فلا تطغوا في هذا الميزان، ولا تتجاوزوه ولا تتخلّفوا عن،, أوفوا حقّه، طابقوا أنفسكم وقوّموها على أساس هذا الميزان، اتّخذوه مقياساً لأفكاركم وعقولكم وآرائكم وعقائدكم.

وأمّا أنّه كيف كان أمير المؤمنين عليه السلام هو الميزان؟ فالجواب هو أنّ رسول الله وخاتم النبيّين هو أفضل وأشرف من جميع الأنبياء والمرسلين، وقد انتقلت جميع كمالاته وعلومه ومعجزاته إلى أمير المؤمنين، وهو نوع من الإرث حسب المنطق القرآنيّ، فأمير المؤمنين متقوّم بميزان الحقّ، وجميع وجوده وبدنه وفكره وقواه الواهمة والمتخيّلة، وحسّه المشترك، والقوّة الحافظة، والعاقلة، وجميع ملكاته من صبره، وعبادته، شجاعته، تحمّله عند المصائب والشّدائد، من صلاته.. عبادته.. عفّته.. عبوديّته، فكلّ ذلك على أساس الحقّ، وإدراكه ومعرفته على أساس الحقّ أيضاً.

فهو أسمى كوكبٍ وأرفع نجمٍ في سماء الولاية، وجميع الأنبياء والمرسلين ينضوون تحتَ جوهره، وليس لأحدٍ من الأنبياء ـ عدا النبيّ الأكرم (ص) ـ مقامَه وعظمتَه، فهو مثالُ الإنسان الكامل من جميع الجهات، الذي يتلألأ في سماء الولاية، لذلك فإنّ عفّة أمير المؤمنين ميزان كذلك.

يعني أمير المؤمنين هو إمام للبشر وهم مأمومون له، وهو المقتدَى وهم المقتدون به، وهو المتبوع والكلّ تابع له، ويجب على الجميع أن يسيروا إليه ويتحرّكوا نحوه، ويقلّدوه ويتّبعوه خطوة بخطوة، ويقرّبوا أنفسهم إلى مقامه، وكلّ من يقترب منه أكثر فسوف ينهلُ منه بشكل أوفر، وسيتمتّع بالإنسانيّة بشكلٍ أكثر، وكلّ من يبتعد عنه فسوف يقع في الضياع ويزداد حرمانه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد