مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

تشكيل الأمّة الحسينيّة الواحدة

نؤمن بأنّ الحسين بن علي وفاطمة، سبط النبي الأكرم خاتم النبيين (ص)، هو في نهجه وسيرته ودوره وإنجازاته استمرارٌ لنهج جدّه الرسول الأعظم (ص)، بل تجسيدٌ كامل له مع اختلاف ظروف الزمان والمكان. فالحسين (ع) كقائد وإمام وخليفة الله في أرضه وعباده، هو محمد بن عبدالله (ص) في زمانه؛ أو قل إنّ محمدًا المبعوث رحمةً للعالمين قد تجسّد مرة أخرى في الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

وفي هذا التجسيم والتمثُّل التام أضحت معرفة النبي ونهجه مُتاحة. ولو لم يكن مثل الحسين (ع) في تلك الظروف الاجتماعية السياسية الثقافية، لبقي نهج النّبي الأكرم(ص) مجهولاً إلى الأبد. ولا تعجَب من هذا الكلام، وأنت ترى الفوارق المهمة بين أتباع النبي الذين سلكوا نهج الحسين الشهيد، وبين أتباع النبي الذين غضّوا النظر عن الحسين ونهجه وأعظم إنجازاته، والذي تحقق في العاشر من مُحرّم بأجلى مظاهره. بل إنّك تلاحظ الفوارق الكبرى بين مُدّعي حب الحسين ونهجه من حيث تفاوتهم في فهمه وإدراك أهداف ومعاني نهضته.

 

حقًّا لقد أصبح الإمام الحسين بن علي فاروق الأمّة والمذاهب والمشارب والمراتب فيها. والرايات يوم الحشر تتحدّد على أساسه. وكما كان أبوه علي (ع) فاروق الأمّة وقسيم الجنة والنار، فالحسين عليه السلام ابنه فاروق أهل الجنة وفاروق أهل النار، يورِد كل فرقة منها موردها فيهما.

ولكن الأمّة التي أرادها الله خير الأمم لن تتحقق إلا باتّخاذ هويّة واحدة، وهي شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ‏ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.[1] فإنّ الحسين بن فاطمة الزهراء أوصل هذا الشعار إلى أعلى وأقوى مصادیق تطبيقه والعمل به، حين أمر بأعظم معروف وهو الشهادة في سبيل الله، "فإنّي لا أرى‏ الموت‏ إلّا شهادة والحياة مع الظالمين إلّا برما".[2] فأحيى هوية الأمّة التي أرادها الله، وبعث من أجلها أحب الخلق إليه، "وَإِنَّمَا خَرَجْتُ‏ لِطَلَبِ الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي‏ (ص)، أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ‏ وَأَنْهَى‏ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَأَبِي‏".[3] فامتازت أمة الحسين سبط النبيّ عن جميع الأمم التي استفاقت وهي ليست على شيء عند الله وفي العالم.

{فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ‏ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْض‏}.[4]

 

ومثل هذه الأمة الحسينية المحمدية التي تجعل الشهادة في سبيل الله بتقديم الأنفس (وما فيها من عزة) أعلى ما عندها من معروف، تأمر به وتدعو إليه؛ وتجعل الثورة على الظالمين أولى وأهم مراتب النهي عن المنكر؛ لهي أمّة ستعمل على نشر جميع الفضائل والكرامات وتجعل ذلك أصل برامجها وأساس بنيانها، وتنهى عن جميع الرذائل والسيئات جاعلةً من ذلك قوة دفعها لبقاء الأرض وحفظها.

مثل هذه الأمّة الحسينية هي الأمة المنشودة التي ستتحقق بعد أن تُصبح نهضة الحسين الشهيد برنامج سيرها وسلوكها في الحياة، فتستبين حروب النفاق الذي كان وما زال العدو الأكبر لأمّة الاسلام، لا الكفر ولا الشرك الظاهر الـمُعلَن كما حاول البعيدون عن نهج الحسين تصويره على مرّ السنين.

وربما سيحتاج هذا الأمر حتى يتحقّق إلى مئات السنين، لأنّ مثل هذه الأمة ستقوم على رفض جميع أوجه النفاق التي تسلّلت إلى أمّة محمد صلى الله عليه وآله منذ أيام الدعوة الأولى، وأضحت مذاهب وفرقاً وتيارات، مثلما أصبحت مشاكل وأمراضًا قلبية تحول دون وصول الصالحين إلى مقامات القيادة والإدارة في المجتمع الـمُسلم.

 

لقد أعلن الحسين بن علي أنّه سيقاتل المنافقين، وقتال المنافقين لا يتم بقتلهم، بل بفضحهم وكشف نهجهم. فصار المنافق بفضل نهضة الحسين عليه السلام ظاهرًا بكفره وعدائه للنبي الأكرم، وما عاد ليستتر إلا حين تحصل الغفلة عن نهج الحسين ونهضته الكبرى.

أجل، لقد كان الثمن الذي دفعه الإمام الحسين عليه السلام باهظًا جدًّا، ولكنّه أراد بذلك أن يُخبرنا بأنّ الخطر كان عظيمًا جدًّا، وأنّنا إذا أردنا أن نمضي على طريق تشكيل هذه الأمّة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، فعلينا أن نكون مستعدّين دومًا لبذل الـمُهج في مواجهة المخاطر الكبرى، وعدم القبول بأي ذُل يفرضه أعداء الله وأعداء الإسلام.

هذه الأمّة المنشودة بدأ تشكيلها مع رسول الله (ص) في زمانه، واستمرّت عمليّة التشكيل مع رسول الله (ص) بخلفائه من أهل بيته، وسوف تستمر هذه العملية إلى ما شاء الله، شرط حفظ نهج الحسين (ع) المتمثل في عاشورائه. فإذا حادت هذه الأمّة وهي في طور التشكُّل عن هذا النهج أو انحرفت أو غفلت، فلن تُكمل مسيرها نحو الهدف المنشود.

 

الأُمّة الآمرة بالمعروف والناهية عن الـمُنكر هي أُمّة تقوم على تبنّي كل أنواع المعروف ومراتبه، ونبذ كل أشكال الـمُنكر ودرجاته. تفعل ذلك في نظامها السياسي والاجتماعي والإداري، فتكون أمّة العدل والقسط الـمُحاربة لكل ظلم وجور، وبذلك تمتلئ الأرض قسطًا وعدلًا، كما مُلئت ظلمًا وجورًا في آخر الزمان.

كانت الغفلة عن هذا الهدف في فهم الحركة الاجتماعية السياسية الجهادية للأمّة سببًا أساسيًّا لكل الانحرافات، التي تحولّت إلى مذاهب عقائدية وفقهية وغيرها. وما زالت الغفلة عن طبيعة الأمّة الإسلامية المنشودة عاملًا أساسيًّا وراء جميع أنواع المصائب والأزمات، بل الكوارث التي تنزل بأُمّة المسلمين والمؤمنين أينما كانوا.

ورغم الاعتزاز العميق بالحسين (ع) وثورته عند طائفة من المسلمين، واهتمامهم الفائق بإحياء ذكرى فاجعته، إلا إنّ الغفلة عن الهدف لنهضته ما زالت مسيطرة. نؤكّد على هذا، نتيجة اعتقادنا بقوّة تأثير هذا الإحياء وقدرته العظيمة على توحيد المؤمنين وتقوية بنيانهم ورفع شأنهم، وهو أمر لا يبدو أنّه تحقق يومًا، وعلى أمل أن يتحقّق يومًا.

إنّ حضور هذا الهدف في وجدان المؤمنين ووعيهم، والذي يُفترض أن يتجلّى في أدائهم ونضالهم، يتطلّب بصيرةً مميزة بقيادة النبي الأكرم (ص) ونهجه وجهاده وسيرته وسنّته وإنجازاته، الأمر الذي عملنا على إظهاره في كتابنا الصادر تحت عنوان "محمد القائد"، حيث أشرنا إلى ثلاثية الكتاب والأمة والإمامة، كأركان أساسية للمشروع الإلهي الرسالي، ودعونا إلى فهم دور كل ركن وتفاعله مع الركنين الآخرين، كنافذة واسعة لفهم مسيرة هذا المشروع وتحوّلاته على مدى مراحل الإمامة وصولًا إلى عصرنا عصر الغيبة الكبرى.

 

فإذا كانت الأمة الإسلامية الواحدة محل نزول بركات الثقلين (الكتاب والعترة) والأداة التنفيذية للمشروع، فينبغي أن نضعها تحت مجهر النظرة الاجتماعية الدقيقة التي تقدر على توصيف سُلَّم التطوُّر الاجتماعي في رُقيّه وانحطاطه، الأمر الذي اختفى تمامًا من ساحة التفكير الإسلامي على مدى العصور.

ولأجل ذلك، وجدنا هذا الاختلاف الكبير بين الـمسلمين في وصف حال الأمة المرحومة، بين مُمجِّد لأبعد الحدود ومُنزِّه عن كل ذنب وقيود، وبين لاعنٍ ماقتٍ يائسٍ وناكرٍ لأمجاد الجدود.

على مدى تاريخ المسلمين، كانت الحاجة إلى وصفٍ دقيق لحالة الأمة أمرًا يتم تأمينه بأفكارٍ سطحية أو عابرة، ولم يتمّ ترسيخ المعايير اللازمة لرسم سُلّم الارتقاء والانحطاط، وبسبب ذلك جهلنا الكثير من حقائق القرآن والعترة.

القرآن كتابٌ أُنزل حتى يُقام في الحياة كلّها، وإلا لم يكن أهله على شيء، مثلما أنّ الله سلب أهل الكتاب أي شيء جميل حتى يقيموا التوراة والإنجيل. فما لم يتجسّم القرآن في حياة الأمة، فلن تكون على شيء. وحيث إنّنا لم نقدر على تحديد ما إذا كانت الأمّة على أي شيء، فقد جهلنا حقيقة القرآن.

 

الأمّة الإسلامية هي مرآة حقائق القرآن وظهوره في ساحات الحياة وميادين الإدارة والقيادة. والله لم يبعث رسولًا إلا ليُطاع بإذنه، فما لم تُطع الأمّة نبيّها في أهم ما دعاها إليه، فكيف ستكون مُطيعةً لله، قائمةً بأمره؟! وهكذا، كانت علاقة هذه الأُمّة بأئمتها وارتباطها بهم، انعكاسًا لمعنى الإمامة في الواقع العملي.

لقد جهلنا الكثير من حقائق الإمامة الإلهيّة حين لم نتّبع الأئمة كما أراد الله، فاختفت آراؤهم وتبدّدت على مدى العصور، منذ أن أعلن أبو الأئمة قائلًا: "ولكن لا رأي لمن لا يُطاع".[5] واختفى علمهم الذي به حياة الأُمم، حين قال هذا الإمام: "إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَة".[6]

ففي عملية إحياء الثقلين والعودة إلى التمسُّك بهما لكيلا نضل أبدًا، يجب أن نستحضر تلك الثلاثية المتفاعلة التي يكشف كلّ واحدٍ فيها عن دور الآخر وحاله. فإذا عرفنا حقيقة الأمّة المنشودة وأبعادها التي تتجلّى في كلمتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، استطعنا أن ندخل إلى عالم القرآن الذي أُنزل لتحقيق هذا الهدف الأسمى ولتعرّفنا على الإمام الحقيقي وحقيقة الإمامة، كما جاء في الحديث الشريف: "اعْرِفُوا اللَّهَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولَ‏ بِالرِّسَالَةِ وَأُولِي الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ".[7] فإذا دخلنا إلى عالم القرآن من بوابة دوره في تشكيل هذه الأُمّة، انفتحت علينا أبواب علومه ومعارفه من حيث أراد الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]. سورة آل عمران، الآية 110.

[2]. واقعة الطف، ص3.

[3]. بحار الأنوار، ج44، ص329.

[4]. سورة هود، الآية 116.

[5]. نهج البلاغة، ص 71.

[6]. نهج البلاغة، ص496.

[7]. الكافي، ج1، ص85.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد