ولن نستطيع أن نستوفي الحديث عن مواقف زينب الرائعة والرائدة، ولا أن نلم ببطولاتها النادرة، ولذا فنحن نكتفي بتسجيل لمحات عن موقفها في الشام مع يزيد الطاغية، وبالأخص تسجيل مقارنة سريعة بين موقفي كل من: زينب الحق والخير والمعرفة والوعي، ويزيد الخمور والفجور والظلم والطغيان والجبروت.
فيزيد هو صاحب الجاه والسلطان، ويرى نفسه ملكاً على أعظم إمبراطورية في العالم، والناس كلهم تحت طاعته، ورهن إشارته، ويزيد يملك الرجال، والجيوش التي تدافع عنه وتحمي سلطانه، وتخنق كل صوت يرتفع ضده، وتسحق كل مخالف ومناوئ له، ويستطيع أن يضرب بيد من حديد ويقضي على كل حركة أو إشارة من أعدائه.
ويزيد يملك مقدرات أعظم دولة على وجه الأرض، وكل الأموال الهائلة تجبى إليه من أقطار الأرض، فالمال كل المال له، وبين يديه، ومن أجله وفي سبيله. ويزيد هذا الذي يرى نفسه أعظم رجل على وجه الأرض، ويملك كل أساليب القوة والقهر والسلطان، يرى نفسه أيضاً أنه هو المنتصر الفاتح، ويرى أن انتصاره كان سريعاً وساحقاً، وهذا مما يزيد في غروره وطغيانه، وتجبره، وغطرسته.
ويزيد لم يعرف غير النعيم والرخاء، والطاعة العمياء من كل من حوله، ويزيد في وطنه وفي بلده، حيث نشأ وعاش وتربى، ولا يحس بغربة، ولا بوحشة، ويزيد يرى الدنيا تضحك له ويرى نفسه قادماً على مستقبل مشرق رغيد، يجد فيه كل أحلامه وأمانيه ومشتهياته.
ويزيد في أعز مكان يمكن أن يكون فيه على تخت ملكه، وفي قصره وفي مجلسه، وعلى بساطه، ويزيد لم يفقد أحداً من أعزائه وأحبائه في حرب كربلاء، ليفت فقده في عضده ويجرح كبرياءه، ويخفف من عنجهيته، ويزيد رجل وشاب والرجل بطبيعته ـ وبالأخص إذا كان شاباً ـ أقوى على تحمل المصاعب، ومواجهة المشكلات من المرأة، وأقدر منها على مواجهة الصدمات ولاسيما العاطفية منها.
ويزيد الرجل الشاب الفاتك، ذو البطش، الذي لم يكن ليقف في وجهه شيء ولا يمنعه شيء حتى الدين من أن يرتكب أي عظيمة، ويقترف أي جريمة ولا يخاف شيئاً، ولا يرهب من شيء في سبيل ملكه وكبريائه، بل هو يقتل حتى أبناء الأنبياء، وحتى الشيوخ والأطفال الرضع، وحتى النساء في سبيل وصوله إلى أهدافه، وحصوله على مراداته، مهما كانت رخيصة، وغير معقولة.
يزيد هذا يقف في وجهه خصم قوي، ومكافح شديد، ويهينه ويذله، ويبدو هو أمامه خانعاً عاجزاً مقهوراً، ومما يزيد في مرارة الموقف، ولوعته وألمه أن خصمه في هذه المرة كان "امرأة ". نعم امرأة، والمرأة أضعف من الرجل وأرق، كما يقولون، وأقل تحملاً في مواجهة الصدمات العاطفية كما يعتقدون.
وامرأة مثكولة، ومصابة بأولادها، بأخوتها، بأبنائهم، بنجوم الأرض من بني عبد المطلب، وبخيرة أصحابهم وشيعتهم ومحبيهم، وامرأة ليست فقط مثكولة بمن ذكرنا، وإنما هي بنفسها رأت مصارعهم وشاهدت بأم عينها حالتهم البشعة، والتي تقرح القلوب وتدميها.
نعم رأت مصارعهم ورافقت كل الأحداث والمصائب التي مرت عليهم، وامرأة وحيدة، ليس معها من حماتها حمي، ولا من رجالها ولي، وليس لها جيش يحامي عنها، أو يدفع. ولا بيدها سلاح تملكه أو تلجأ إليه. امرأة ليست تملك من المال شيئاً تسد به رمقها ورمق مَن هي مسؤولة عنه، بل تحتاج إلى أعدائها ليساعدوها على حفظ رمق الحياة ومواجهة عقارب الجوع والعطش اللاسعة، والتي لا ترحم أحداً، ولا ترثي لأحد.
وامرأة تعاني من ذل الغربة، ووحشة الدار، وليس فقط الغربة عن بلدها، بل هي في بلد عدوها وفي يده وتحت سلطته وسلطانه، وامرأة مهزومة عسكرياً أيضاً، وامرأة تعاني من ذل القهر والأسر، بالإضافة إلى ذل الهزيمة العسكرية. امرأة تجد الشماتة القاتلة من أهل الشام بها، حتى لتزين دمشق استبشاراً بالانتصار عليها وعلى أحبتها وبقتلهم وإبادة خضرائهم.
امرأة ترافقها رؤوس أبنائها وإخوتها وغيرهم من أحبتها طول الطريق على رؤوس الرماح، بشكل يفتت الأكباد ويدمي القلوب، امرأة هي بالإضافة إلى كل ذلك تتحمل مسؤولية الحفاظ على طائفة كبيرة من الأرامل والأيتام والأسرى والأطفال، وقضاء حاجاتهم والإشراف على كل حركاتهم.
وامرأة قد عانت من مشاق السفر ومتاعبه ما فيه الكفاية، وامرأة لم يكن لها سلطان أو ملك تعتز به، أو تعتمد عليه، وامرأة تقدم على مستقبل مجهول وقاتم، ولا تعرف مصيرها فيه ولا مصير كل أهلها وذويها، وامرأة لم تعرف البذخ والترف والنعيم والرخاء، كما كان الحال بالنسبة لبنات الملوك وأبنائهم.
وامرأة مهما توقعنا منها، فإننا لا نتوقع إلا أن تنهار، وتنهزم وتبكي وتنتحب وتعجز، نعم هذه المرأة بالذات، وبهذه الخصائص والمميزات تقف في وجه الطاغية يزيد لتذله، وتسحق شخصيته ووجوده بقدميها، تقف في وجهه، والمواجهة أصعب من الغيبة وعلى بساطه وفي دار ملكه، ويزيد هو من قدمنا، تقف وبقوة إيمانها، وصادق عزيمتها لتقول له، وللعالم أجمع: إنها هي التي انتصرت في المعركة، ويزيد فقط هو الخاسر المغبون ولا خاسر غيره.
تقف أمام يزيد لتؤدي رسالتها، ولتعطي الصورة الحقيقية للمرأة المسلمة الواعية، التي لا تتصرف بوحي من عاطفة، ولا يطغى على مواقفها العجز، ولا الضعف والوهن، نعم هذه المرأة تقف في وجه يزيد، وفي دار ملكه، وعلى بساطه وبين جنده، ورجال ملكه، وهي تعاني من ذل الأسر، والقهر، والعدم والثكل، تقف في وجهه لتقول له عندما سمعته يتمثل بأبيات ابن الزبعري:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخوارج من وقع الأسل
لأهـلـوا و استهلوا فرحاً
ثـم قـالـوا: يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم
وعـدلنـاه بـبـدر فـاعتدل
ثم زاد عليها قوله:
لعبت هـاشم بـالملك فـلا
خبر جـاء ولا وحي نـزل
لست من خندف إن لم انتقم
من بني أحمد مـا كان فعل
تقف لتقول له على ما ذكره طيفور في بلاغات النساء:21، والخوارزمي في مقتل الحسين: 2 / 64: "الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين صدق الله سبحانه، حيث يقول: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾.
أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى: أن بنا هواناً على الله، وبك عليه كرامة؟ وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان