مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

البرنامج العملي لبناء الذات (المساعي الإيجابيّة)

أداء العبادات:

إنّ الركن الأساسي في برنامج بناء الذات العملي هو أداء العبادات، وعلى وجه الخصوص إقامة الصلوات الواجبة في وقتها وبحضور قلب وإخلاص كامل لله تعالى. يقول تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ﴾. وليخصّص الواحد منّا عند الإمكان مقدارًا من وقته للتوجّه القلبي إلى الله، وليختار لذلك زمانًا ومكانًا مُناسبَين. يقول تعالى ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ﴾.

ولا شكّ في أنّ المداومة على أمرٍ والاعتياد عليه يشكّلان عاملًا مؤثّرًا في انبعاث الميول الفطريّة الإراديّة نحو ذلك الأمر، إلى درجة أنّ الإنسان إذا أنس بلذّة واعتاد عليها، فإنّه يغضّ نظره عن اللذّات الأعلى والأرفع، ويُقدّم اللذّة التي اعتاد عليها، وإن كان يقبل ويُذعن بأنّ اللذات الأخرى أفضل وأرفع.

وإنّ الاعتياد على اللذات بإمكانه أن يكون مضرًّا للإنسان، ويمكن أن يكون ذا قيمةٍ رفيعةٍ، بل ومُنجيًا له أيضًا. فما أفضل أن يعتاد المؤمن على الأعمال الحسنة! فإذا منعه أيّ أمرٍ من أداء هذه الحسنات، فإنّه يستاء ويشعر بالخسران، كأولئك الذين أنسوا بصلاة الليل، حتّى إذا لم يوفّقوا لأدائها في يومٍ من الأيّام واضطرّوا لقضائها خلال النهار، تألّمت أرواحهم وتأذّت، وشعروا بأنّهم خسروا رأسمالٍ عظيمٍ.

وإنّ أرفع لذّةٍ من بين جميع لذّات العالم هي لذّة أنس القلب بالله وتذوّق طعم مناجاته، الأمر الذي يتحقّق في ظلّ المداومة على التوجّه القلبي إلى الله وتكراره والاعتياد عليه. وإنّ المداومة على ذكر الله، بالإضافة إلى أنّها تُشعل نار الأنس بالله في قلب الإنسان، فإنّها تبعث على إعراض الإنسان عن اللذات الماديّة وعدم اعتنائه بها.

ولا ينبغي للمؤمن أن يغفلَ عن الأنس بكلّ أمرٍ يرتبط بالله تعالى، نظير التشرّف بزيارة الكعبة المشرّفة وأداء مناسك الحجّ والعمرة، وزيارة المشاهد الشريفة للمعصومين عليهم السلام، وزيارة العلماء والتردّد إليهم، فهذه كلّها أمور توجب زيادة الأنس بالحقّ تعالى.

 

الإنفاق والإيثار:

لا شكّ في أنّ الإنفاق والإيثار والتصدّق بالشيء المحبوب من أهمّ وسائل إزالة التعلّق بالماديّات والإعراض عن اللذائذ الماديّة وتصفية القلب وصَونه من التلوّث بالدنيا. يقول تعالى ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. ويقول أيضًا ﴿لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾. ويقول أيضًا ﴿خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها﴾.

ففي هذه الآية الكريمة لا يطلب الله تعالى من نبيّه الكريم أن يأخذ من المؤمنين الزكاة كي تتطهّر أموالهم إن كان فيها مال مغصوب أو حقّ لفقير أو أيّ ذي حقّ آخر، بل يطلب منه أن يأخذ الزكاة منهم كي تتطهّر نفوسهم وتتزكّى.

ولعلّ في الآيات الشريفة نكتة مخفيّة، وهي أنّ التعلّق بالمال والدنيا يلوّث روح الإنسان وقلبه، ويجعل الإنسان مريضَ الروح والقلب، أمّا علاج هذا المرض فهو دفع الصدقة والزكاة، الأمر الذي يُضعف تعلّق الإنسان بالمال والدنيا، وبالإضافة إلى تطهيره أموالَ الإنسان، فإنّه يُطهّر روحه وقلبه أيضًا.

وهذا التوجيه لا يتنافى أبدًا مع ما ذُكر في بيان وجه تسمية الزكاة بهذا الاسم من أنّها سمّيت كذلك لأنّها تُزكّي المال وتُطهّره. ولا ينبغي أن يبعد عن أنظارنا أنّ الصلاة والإنفاق يُكمّلان بعضهما، ولعلّ هذا هو السرّ في اقترانهما معًا في أغلب الموارد في الآيات القرآنيّة ﴿وَجَعَلَنِي مُبارَكًا أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا﴾.

 

التفكّر:

لا بدّ للمؤمن الذي يريد سلوك طريق بناء الذات من تخصيص مقدارٍ من الوقت يوميًّا للتفكّر في الصفات والآيات الإلهيّة، والهدف من الخلقة، ونعم الله اللامتناهية، والتفكّر أيضًا في تشخيص الطريق الصحيح للوصول إلى الله، وطول المسير وقلّة الحيلة والوقت وكثرة الموانع، وحقارة الأهداف الدنيويّة المحدودة، وكون لذّاتها مشوبةً ومسبوقةً وملحوقةً بالآلام والمصائب، والتفكّر أيضًا في سائر الأمور التي من شأنها تشجيع الإنسان على سلوك طريق العبوديّة واستنقاذه من مستنقع عبادة النفس والدنيا: ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

 

وضع برنامج قرآني:

لا ريب في أنّ لاستحضار المفاهيم والمعارف الذهنيّة تأثيرًا كبيرًا على تشكيل أفعال الإنسان وسلوكه، لذا من المناسب للمؤمن -من أجل أن يجعلَ فكره وسلوكه سالـمَين- أن ينظّم برنامجًا يوميًّا لقراءة القرآن الكريم وحفظه مع التوجّه والتدبّر في معانيه، وكذلك مطالعة الروايات الشريفة والمواعظ والكلمات المليئة بالحكمة، والاطّلاع على الأحكام الفقهيّة والتعليمات الأخلاقيّة، كي يبقى حاضرًا في ذهنه الهدف الأمثل وسبيل بلوغه، ويبقى حيًّا في أعماقه العامل الموعّي والمذكّر والمحرّك لفطرة البحث عن الكمال. يقول تعالى ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾.

عندما يحفظ الإنسان سورةً من سور القرآن الكريم، ويحتفظ بمفاهيمها ومضامينها في خاطره، فإنّ هذه المفاهيم المتعالية تمرّ في ذهنه على الدوام، فتُحدث تحوّلًا فكريًّا لدى الإنسان. كذلك الأمر لو كانت أذن الإنسان مأنوسةً دائمًا بأذكارٍ من قبيل الله أكبر ولا إله إلا الله -والتي تحكي عن عظمة الله وقدرته وإحاطته الوجوديّة-، وكان عبق هذه الأذكار يُلقي بظلاله على قلب الإنسان، فإنّ من شأن ذلك أن يرسم للإنسان مسار العبوديّة لله ويُسهّله أمامه، فيسعى على الدوام للتحرّك في ظلّ الإرادة الإلهيّة والرضى الإلهي. ومن هنا، ورد في بيان أحوال الإمام الباقر عليه السلام أنّ لسانه كان يلهج على الدوام بذكر لا إله إلّا الله.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد