مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

وحدة المسيرة والمعاناة والثواب

من أروع ما في التصوّر الإسلامي للميراث، أنّ الأجيال اللاحقة لا ترِث فقط المواريث الحضاريّة من الأجيال السابقة، وإنّما تُشاركها أيضاً في ثواب معاناتها وعنائها الطويل، في صراعها مع الكفر والنفاق؛ لإقامة الفرائض الإسلاميّة وتثبيتها.

فقد تحمّل سَلَفُنا الصالح على هذا الطريق الكثير من العناء والمعاناة في الصراع مع الطاغوت؛ لإقامة هذه الفرائض وتثبيتها، وتعبيد الإنسان لله.

 

ونحن (الوارثون)، لا تنتقل إلينا فقط هذه القِيم والمواريث - (العبوديَّة، والإيمان، والصلاة) - من سَلَفِنا، وإنّما ينتقل إلينا أيضاً ثواب معاناتهم وصبرهم وعنائهم، دون أن يكون لنا فِعل وتحمُّل في هذه المعاناة والعناء.

والجسر العجيب الذي ينتقل عليه هذا الثواب والأجر - من دون معاناة وعناء، ويُشرِك أُناساً في ثواب أُناس آخرين سبقوهم - هو الولاء والحُبّ.

 

وعجيب أمر الولاء والحُبّ! فهو يُوحِّد أطراف هذه المسيرة المتباعدة، ويجعلها قطعة واحدة، ويُشرِك اللاحق في ثواب السابق، ويجعل السابق مورداً ومُعيناً للاّحق. وهذا هو البُعد (المستقبليّ) لمسيرة الدعوة إلى الله.

روى الحكم بن عيينة، قال: لـمّا قتلَ أمير المؤمنين عليه ‌السلام الخوارجَ يوم النهروان، قام إليه رجُل فقال: يا أمير المؤمنين، [طوبى لنا إذ شهدنا معك هذا الموقف، وقتلنا معك هؤلاء الخوارج]، فقال أمير المؤمنين عليه ‌السلام: (والّذي فلقَ الحبّة وبرأ النسمة، لقد شهدنا في هذا الموقف أُناس لم يخلق اللهُ آباءَهم ولا أجدادهم بَعدُ، فقال الرجل: وكيف يشهدنا قوم لم يُخلَقوا؟ قال: بلى، قوم يكونون في آخِر الزمان، يشركوننا فيما نحن فيه، ويسلِّمون لنا، فأُولئك شُركاؤنا فيما كنّا فيه حقّاً حقّاً) (1).

 

وروى محمّد بن سلَمة، رفَعَه، قال: قال أمير المؤمنين عليه ‌السلام: (إنّما يجمعُ الناسَ الرضا والسّخط، فمَن رضي أمراً فقد دخلَ فيه، ومَن سخطه فقد خرجَ منه) (2).

وعن سُليمان بن خالد، عن أبي عبد الله عليه ‌السلام، قال: (لو أنّ أهل السماوات والأرض لم يُحبِّوا أن يكونوا شهداء مع رسول الله صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله، لكانوا من أهل النار) (3).

 

وروى أبو جعفر، محمّد بن أبي القاسم الطبري، في كتابه (بِشارة المصطفى)، عن عطيّة العوفي، قال: (خرجتُ مع جابر بن عبد الله الأنصاري زائرين قبر الحسين عليه ‌السلام، فلمّا ورَدْنا كربلاء، دَنا جابر من شاطئ الفرات، فاغتسل ثُمّ ائتزرَ بإزار وارتدى بآخر، ثُمّ فتح صُرَّة فيها سُعْد، فنشرها على بدنه، ثُمّ لم يخط خطوة إلاّ ذكر الله تعالى، حتّى دَنا من القبر، قال: ألمسنيه، فألمستُه، فخرَّ على القبر مَغشيّاً عليه، فرَششتُ عليه شيئاً من الماء، فلمّا أفاق قال:

يا حسين، ثلاثاً. ثُمّ قال: حبيبٌ لا يُجيب حبيبه، ثُمّ قال: وأنّى لك بالجواب، وقد شَخُبَت أوداجُك على أثباجِك، وفُرِّق بين بدنك ورأسك، فأشهدُ أنّك ابن خاتم النبِّيين، وابن سيِّد المؤمنين، وابن حليف التقوى، وسَليل الهُدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيِّد النقباء، وابن فاطمة سيِّدة النساء.

 

وما لك لا تكون هكذا، وقد غَذَّتكَ كفّ سيِّد المرسلين، ورُبِّيت في حِجرِ الـمُتّقين، ورضعتَ من ثديِ الإيمان، وفُطِمتَ بالإسلام.

فطبتَ حيّاً وطبتَ ميِّتاً، غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيِّبة لفراقِك، ولا شاكَّة في الخِيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه.

وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريّا.

 

ثمّ جال ببصره حول القبر وقال:

السلام عليكم - الشهداء من أصحاب الحسين وأهل بيته - أيّتها الأرواح التي حلَّت بفناء الحسين، وأناخَتْ برَحلِه، وأشهد أنّكم أقمتُم الصلاة، وآتيتُم الزّكاة، وأمرتُم بالمعروف ونهيتُم عن الـمُنكَر، وجاهدتُم الـمُلحِدين، وعبَدتُم الله حتّى أتاكم اليقين.

والذي بعث محمّداً بالحقِّ نبيّاً، لقد شاركناكم فيما دخلتُم فيه.

 

قال عطيّة: فقلت له يا جابر: كيف ولم نهبط وادِياً، ولم نعلُ جَبَلاً، ولم نضرِب بسيف، والقوم قد فُرِّقَ بين رؤوسهم وأبدانهم، وأُوتمتْ أولادهم، وأُرملَتْ أزواجهم؟!

فقال: يا عطيّة، سمعتُ حبيبي رسول الله صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله يقول: (مَن أحبَّ قوماً حُشِرَ معَهم، ومَن أحبّ عمل قوم أُشرِكَ في عملِهم).

والذي بعثَ محمّداً صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله بالحقّ، إنّ نيَّتي ونيَّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه عليهم‌ السلام) (4).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). المحاسن: ص262.

(2). المصدر نفسه

(3). المصدر نفسه

(4). بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: ص74 - 75، ط النجف 1383 هـ.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد