مقالات

الآخرة والعلم الحديث

الشيخ محمد جواد مغنية

 

من مظاهر الرقي والحضارة عند نفر من الشباب أن يطلقوا في سخرية كلمة «ميتافيزيقي» على كل من يتدين، ويتكلم باسم الدين، فهو بزعمهم مثالي بعيد عن الواقع، وهم واقعيون لأنهم ينكرون الأديان.

 

وإذا كان أصحاب الدين غيبيين ميتافيزيقيين، لأنهم آمنوا باللّه دون أن يجربوا ويشاهدوا، فالذين جحدوا أيضًا غيبيون ميتافيزيقيون، لأنهم أنكروا من غير علم ولا مشاهدة، فما سمعنا أن أحدًا منهم أو من قام برحلة إلى ما وراء الطبيعة، ثم عاد وأخبر أنه لم يجد شيئًا هناك... إذن المؤمن والجاحد سواء في عدم التجربة والمشاهدة، فكيف يقال عن أحدهما واقع ، والآخر مثالي!

 

وبتعبير ثانٍ إن كان الإيمان باللّه لا يصدق إلا إذا اكتشفنا وجود الخالق بالآلات كما نكتشف درجة الحرارة بميزان الحرارة، فإن كلًّا من الجاحد والمؤمن لم يستعمل الآلات والمختبرات، فكيف نسب ذاك إلى الوعي، وهذا إلى الجهل؟!

 

ثم إذا كان كل من يعتمد العقل والاستنتاج ميتافيزيقيًّا فجميع الناس، إذن، ميتافيزيقيون دون استثناء!. فمن قال: كل شيء في الوجود مادة فقط أو روح فقط، أو هما معًا فقد قال قولًا ميتافيزيقيًّا. وكذا من قال: لمعرفة لا تحصل إلا من الحواس وحدها، أو من العقل وحده، أو منهما متعاونان، أو قال: الأمور كلها نسبية ولا حقائق مطلقة، أو قال: الكون قديم أو حديث، وإن أصله ذرات أو غازات، وأصل الإنسان قرد أو طحلب، وإن الأرض قطعة من الشمس، والمادة في حركة دائمة، وإن هذا خير أو شر، وذاك جميل أو قبيح، وما إلى ذلك من الأحكام العامة فهو غيبي ميتافيزيقي، لأنه لم يجرب ويشاهد. بل العلماء الذين جربوا وشاهدوا ميتافيزيقيون أيضًا، إذ لا غنى لهم عن العقل والإدراك الذي لا ينفك عن الذات بحال، فالمعرفة أيًّا كان سببها فإنها ترد صاحبها إلى ذاته.

 

ولذا قيل: لا يوجد أشياء ذاتية خالصة مئة بالمئة، ولا موضوعية مطلقة مئة بالمئة، وإنما تتكيف الذات بحسب الموضوع، ويتكيف الحكم على الموضوع بحسب الذات. وعلى هذا تكون الميتافيزيقا على أنواع لا نوع واحد، فمن الخطأ أن تحصرها بما وراء الطبيعة فقط. لأن كل فكرة لا تقوم على التجربة والمشاهدة فهي غيبية ميتافيزيقية، سواء أكان مصدرها العقل أو الوحي أو أي سبب آخر.

 

إن سبيل الحقيقة لا ينحصر بالتجربة والمشاهدة، ولا سبيل الخرافة بالغيب والميتافيزيقا، وإنما معيار الحقيقة ومدارها أن تكون ثابتة في نفسها ومطابقة للواقع، وللحقائق الغيبية واقع خارجي، تمامًا كالحقائق الطبيعية.

 

وقال قائل: كيف يكون الغيب حقيقة مع بعده عن عالم الشهادة الذي نعيش فيه؟! إن لفظة غيب بنفسها تشعر بالعدم المحض الذي لا يصح وصفه بالكذب ولا بالصدق، لأن ما يوصف بالكذب ينبغي أن يكون قابلًا للاتصاف بالصدق - مثلًا - إذا قال لك قائل: في الصندوق أربع برتقالات، فبإمكانك أن تتحقق من هذا الزعم بالنظر في داخل الصندوق، فإن وجدت فيه البرتقالات الأربع فهو صادق وإلا فهو كاذب، أما الذي لا تمكن فيه عملية التجربة والمشاهدة فهو أسوأ حالًا من الكذب، لأنه كلام فارغ لا مدلول عليه «1».

 

ونحن نسأل هذا «القائل» على أي شيء استندت في قولك هذا؟ هل جربت رأيك وحللته في المعامل والمختبرات قبل أن تنطق به؟! وأيضًا لقد اعترفت في صفحة 190 أن للإنسان جسمًا وروحًا، فمن أين جاءك العلم بهذا؟! هل لمست الروح بيديك، أو شاهدتها بعينيك؟!

 

قال «دارون» صاحب‌ نظرية النشوء والارتقاء: «يستحيل على العقل الرشيد أن تمر به ذرة من شك في أن العالم الفسيح بما فيه من الآيات البالغة، والأنفس الناطقة المفكرة قد صدر عن مصادفة عمياء، لأن المصادفة لا تخلق نظامًا، ولا تبدع حكمًا، وذلك عندي أكبر دليل على وجود اللّه».

 

ولكنه عند الكاتب أكبر دليل على عدم والوجود، لأنه لا يمكن أن يتحقق منه بالتجربة كما يتحقق من وجود البرتقالات في الصندوق!

 

ومرة ثانية نقول: ليست التجربة هي السبيل الوحيد لمعرفة الحقيقة، فإن في الغيب حقائق لا تدخل في حساب، وليس بينها وبين الحقائق الطبيعية أي تناقض أو تضاد، بل هما متآزرتان تدعم إحداهما الأخرى. فقد جاء في الحديث أن الدين والحياء يتبعان العقل حيث كان، كما قدمت العلوم الجديدة كثيرًا من الشواهد على أن ما جاء في الإسلام عن الألوهية والوحي والبعث هي حقائق لا ريب فيها...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قشور ولباب لزكي نجيب محمود ص 207 طبعة 1957.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد