مقالات

هل أبو ذر اشتراكي؟

الشيخ محمد جواد مغنية

 

من الآراء السائدة أن أبا ذر الغفاري ممن آمن بالاشتراكية ودعا إليها، وأنه لاقى من جراء ذلك أنواع العذاب، أما سبب هذا الرأي فيعود إلى كفاح هذا الصحابي الجليل في سبيل تنفيذ مبدأ الإسلام ومحاربة البؤس والشقاء.

لم يكن أبو ذر فيلسوفًا ولا صاحب مذهب خاص، بل كان رجلًا ساذجًا عاش في البادية يرعى الماعز والغنم، ثم صحب الرسول الأعظم وأخذ عنه تعاليم الإسلام، فآمن بها، ودعا إليها، فهو لا يعتمد في إيمانه ودعوته على غير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

 

على هذا الأساس، أساس روح الإسلام ومبادئه حارب أبو ذر قيام الترف والنعيم إلى جانب البؤس والشقاء ونادى بأعلى صوته: لا يحل للإنسان أن يتمتع بثروة لا يحصيها العد والحساب، وجاره جائع يعجز عن القوت، ومريض لا يستطيع التطبيب، وجاهل لا يجد السبيل إلى التعليم.

وإذا دفع الأغنياء من أموالهم ما يسد هذا الفراغ، بحيث تتيسر السبيل إلى الرغيف والدواء والدرس لطلابها، فلهم أن يكسبوا الأموال ويجمعوها من حلّ ويتصرفوا بها كما يريدون ويشتهون ما دامت تصرفاتهم لا تضر بصالح الأفراد ولا الجماعات.

 

ومن تفهم الإسلام وأخلص له، إخلاص أبي ذر حرم على الإنسان أن يتقلب في نعيم الثراء وأخوه يعذر في جحيم الشقاء، أما إذا كان أخوه في عيشة راضية أو مستور الحال، فإن النعيم مباح بل مستحب لكل من وجد السبيل إليه قال تعالى في سورة الأعراف آية 32 و 33 "قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده.. والطيبات من الرزق... قل: إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي".

إن هذه الآية الكريمة أباحت للإنسان أن يحيا في نعيم الطيبات ويظهر بمظاهر الأبهة والزينة، بل أنكر الله على من حرم ذلك، لأن التحريم ينافي الحكمة من خلق الزينة والطيبات التي أخرجها الله لعباده، وحرمت الفواحش والخلاعة وانتهاك الأعراض والحرمات، والإثم والبغي.

 

وعلى هذه الآية يرتكز تشريع القوانين والأحكام الدينية، فتطلق للفرد حريته وسعادته ومواهبه ولا تكون الحكومة ولا غيرها وصيًّا ولا وليًّا عليه، وإنما تكون رقيبًا ومحاسبًا ورادعًا له عن الإثم والبغي، عن الإضرار بالغير والتعدي على حقوق الناس، كي لا يعيش إنسان على حساب إنسان.

إن للفرد وجودًا مستقلاًّ عن غيره، ووجودًا يوصف كونه جزءًا من الجماعة، له حقوقه المادية والأدبية.

 

ليس للإسلام مذهب خاص يسمى الاشتراكية أو الديمقراطية وإنما هو دين وشرع يدعو إلى العدالة الاجتماعية والمحبة والمساواة يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقد تلتقي هذه الدعوة من بعض جهاتها مع المذاهب المادية والآراء الفلسفية، وتفترق عنها من جهات أخرى ولا تعني هذه الملاءمة أن تلك الدعوة هي عين هذا المذهب وحقيقته.

وكثيرًا ما يحسن الإنسان بذكائه وصفاء فطرته بمعنى من المعاني فيعبر عنه في معرض حديثه بأسلوب ساذج عادي ثم يقرر هذا المعنى كحقيقة علمية جاءت نتيجة لدرس العلماء وتجاربهم، كقول أبي ذر "إذا ذهب الفقر إلى بلد قال الكفر: خذني معك". فقد أثبت العلم أن سلوك الإنسان وليد لحالاته وظروفه فإذا كان جائعًا لم ينتفع بالحكمة الصالحة والموعظة الحسنة، لأنه يفكر ببطنه لا بعقله ومثل هذا الحس الصائب لا يصح أن نسميه مذهبًا في الأخلاق، ونظرية في العلوم التي هي نتيجة البحث والأقيسة والاستنتاج.

 

إن أبا ذر صحابي، مثله مثل أي صحابي آمن بالله ورسوله، وبالإسلام ومبادئه ولكنه يمتاز عن غيره بالزهد والجهر بالحق، وهاتان الميزتان هما السبب الوحيد لنسبة الاشتراكية إلى أبي ذر.

كان لأبي ذر زوجة سوداء وكان يرحمها ويرفق بها، وكان أصحابه ينصحونه ويلحون عليه بأن يتزوج غيرها فلا يقبل منهم النصح، وكان إذا وزع العطاء على المسلمين أخذ عطاءه وأنفقه على الفقراء وكانت له غنيمات يرعاها بنفسه، ويحلبها بيده، فيبدأ بجيرانه وأضيافه إذا كان عنده رغيفان أعطى أحدهما لذي حاجة، وكان لا يقبل عطاء من حاكم ولا من غيره إلا إذا كان العطاء عامًّا.

 

أرسل إليه عثمان مائتي دينار فجاء الرسول، وقال له: هذه من عثمان، وهو يقول لك: إنها من صلب ماله ما خالطها حرام، فقال له أبو ذر: هل أعطى أحدًا من المسلمين مثلما أعطاني؟ قال كلا، فقال أبو ذر: اذهب أنت والدراهم، إنما أنا رجل من المسلمين يسعني ما يسعهم ولست في حاجة إلى المال، فقال له الرسول: أصلحك الله إني لا أرى في بيتك كثيرًا ولا قليلًا! فرفع أبو ذر الوسادة وأراه قرصين من خبز الشعير، وقال للرسول: بل عندي هذان وإني لغني بهما وبثقتي بالله وإيماني بالحق.

يمقت أبو ذر الاحتكار بشتى أنواعه ومعانيه حتى الهدايا، فإنها لا تحلّ له ولا لغيره إذا لم تكن عامة شاملة للجميع، وهو غني بكوز الماء والشعير لأنهما وسيلة تيسّر له الوصول إلى هدفه الأسمى وعقيدته المثلى.

 

أما صراحة أبي ذر فقد جرّت عليه الويلات وسبّبت له الضرب والبؤس والتشريد، عندما أسلم أبو ذر كان عدد المسلمين لا يزيد على أربعة، فتعرض لصناديد قريش، وجهر بالإسلام وتحداهم مناديًا بأعلى صوته: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. فضربوه حتى كاد يقضى عليه لولا أن يكفهم عنه العباس بن عبد المطلب، ثم عاود فعاودوا الضرب والعذاب. ولما رأى النبي (ص) أن أبا ذر معرض للقتل، لأن طبعه يأبى السكوت عن الباطل أمره أن يلتحق بأهله حتى إذا كثر المسلمون أتاه.

ولما توفي النبي (ص)، ورأى أبو ذر الأموال في عهد الخليفة الثالث يبذرها الأقربون هنا وهناك، والناس يقتلهم الجوع والبؤس ثارت ثورته وجن جنونه وصاح في وجه السلطان وفي كل مكان: جمعتم الأموال من الناس فيجب أن تنفقوها على الناس فطرد، ونفي ومات في الصحراء وحيدًا، بعد أن مضت عليه ثلاثة أيام لم يطعم فيها شيئًا، هذا والكثير من زملائه الذين هم دونه سابقة ومنزلة عند الرسول يتدفق عليهم الذهب والفضة وتزخر حياتهم بالنعيم وأطايب العيش، وهذي سبيل الإثم والبغي ما تزال، ولن تزال متبعة ما وجد الباطل أنصارًا.

 

اصطدم أبو ذر بأصحاب السيادة والثروة لا لأنه يطلب سلطانًا ومالًا، بل لأنه لا يريد أن يقوم الترف والبذخ إلى جنب الفقر والبؤس. لم يكن أبو ذر صاحب مذهب خاص أو رأي جديد، صحب الرسول وآمن بدعوته على أنها وحي من الله سبحانه، وتفهمها على أساس العدل بين الناس أجمعين، فلا تابع ومتبوع، وسيد ومسود، وكرس حياته لتحقيق هذه الدعوة والظفر بها ولم يتخذها كغيره وسيلة للجاه والعيش، فكان ذلك سببًا لأن يتخذ المصلحون من شخصيته هاديًا لسلوكهم ورائدًا لأهدافهم.

وأي إنسان أدرك الدين على حقيقته كما بشر به الرسل والأنبياء، أدركه على أنه رسالة إنسانية تجاوزت حدود الفردية والعنصرية والإقليمية والطائفية وإن هذه الرسالة غاية تقصد لذاتها لا وسيلة وأداة للميول والشهوات، وأخلص لها إخلاص أبي ذر يكون كأبي ذر قدوة صالحة لكل مصلح ومثلاً أعلى لكل مؤمن.

 

ليس رجل الدين من نطق بالحكمة وحفظ الأصول والفروع، ولا من آمن بالأساطير والعفاريت والسحر والتخريف فالأول مشعوذ محترف يقلده الجاهلون باسم العلم والمعرفة، والثاني جاهل مخرف يحترمونه باسم الإيمان والقداسة، ولا شيء أعظم من خطرهما على الدين، إذ يبقي بلا قائد ولا رائد، هذا هو السر في ضعف العقيدة الدينية انصراف الناس عن الدين وأهله.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد