نسأل: لماذا يعاني أكثر العشاق أو كلّهم؟ هل لا بد من معاناة في الحب، أو يمكن بسهولة تجنُّب محنة الحب هذه إن عرفنا السبيل؟
من اطّلع أو شاهد أو مرّ بهذه المعاناة يعلم كم هي مؤلمة ثقيلة مفجعة موجعة، لا يتمناها لأحد حتى لو انتهت على خير.
تنشأ محنة الحب هذه ـ بعد حصول الانجذاب إلى المحبوب ـ من أمرين أساسيين؛ وهما: الحزن من عدم الوصول، والخوف من انقطاع الوصال.
فحين نحب شخصًا ونرى أن الوصول إليه سيكون علامة على وجود الحب بالحقيقة ورسوخه في القلب، فسوف نسعى بكل ما يمكننا لتحقيق هذا الوصال. فإن شعرنا بالعجز عن ذلك، لأي سبب كان، يتملّكنا حزنٌ تكون شدته وقسوته بمقدار أهمية المحبوب لنا. فإن كان هذا المحبوب بالنسبة لنا كلّ وجودنا، فالحزن هو بمستوى فقدان الوجود. وهل يوجد حزن أكبر من ذلك؟!
وحين نصل إلى المحبوب، نخاف أن نفقده. والخوف يكون بمقدار أهمية المحبوب لنا، فإن صار هذا المحبوب كلّ وجودنا، كان الخوف بمستوى فقدان الوجود أيضًا. ولا شيء يضاهي فقدان الوجود حزنًا وخوفًا!
الحزن ينشأ من الفقدان، والخوف ينبع من احتمال الفقدان. لكن الفقدان لا يكون بموت المحبوب فقط، بل قد يكون بعد حصول الوصال. هذا الوصال الذي نتأكد به من وجود الحب فعلًا. وما دمنا لا نرى الحب من المحبوب، نبقى في شك من أنّنا نعيش الحب الحقيقي؛ فيصبح الوصال مطلبًا لكي نستعيد ذواتنا أيضًا، لأن الحب الحقيقي هو أفضل تعبير أو دليل على أننا وجدنا ذواتنا.
لا يمكن للعاشق أن يحب، ثم يتنازل أو يتساهل بشأن وصال المحبوب بهذه البساطة؛ لأن الحب الذي تملّكه وملك كيانه أصبح عنوان وجوده وذاته. وما لم يتأكد من أنه ليس بحب، أو ما لم يطلب المحبوب منه الفصال، فلن يتخلى عن الوصال أبدًا.
كثيرون ظنّوا أن انجذابهم لشخص ما هو حبّ، حتى إذا حصل الوصال، علموا أنه لم يكن سوى وهم. لأن المحبوب قد ظهر بعدها على غير ما ظنوا فيه. فالوصال هو معقد اليقين بالنسبة لنا، ومنه تنشأ الطمأنينة في الحب.
رغم تنوع أشكال الوصال ودرجاته، لكنه يبقى بالنسبة للعشاق أو طلاب العشق عبارة عن تلك النقطة التي يُفترض أن تزول معها كل الظنون والشكوك. وربما كان الاتصال الجنسي (الذي هو أحد أشكال الوصال) بالنسبة للبشر وسيلة أساسية لاكتشاف الحقيقة، لأن فيه يرون مستوى العطاء والانسجام النفسي أيضًا.
توجهنا نحو الحب العميق والقوي واهتمامنا الشديد به غالبًا ما ينشأ من تجربة التعرف على الجنس الآخر والالتقاء به. هذا الحب هو الذي نصبو إليه في أعماق أنفسنا، لأنه أكثر ما يساعدنا على اكتشاف ذواتنا وتجاوزها في آن. ولكن قد تبدأ معه محنة كبيرة مليئة بالآلام والجراحات، لا يقدر على تجاوزها بنجاح إلا القليلون.
المحنة في رحلة الحب تنشأ عند أكثر الناس من ضعف الحسابات والتقديرات، وهذا ما يوقعنا في الأخطاء الشديدة. وضعف الحسابات ينشأ غالبًا من احتجاب عقولنا بستار الانجذاب القوي والرغبة الملحة.
وهدفي هو شرح أسباب هذه المعاناة الكبرى وبيان الطريق إلى تجاوزها، بل إلى عدم الوقوع فيها مطلقًا. وذلك من خلال اكتشاف ذلك المسار الصحيح لرحلة الحب قبل الوقوع في شراكه.
الذين ينبعث في قلوبهم ذلك الحب عبر الملاقاة ويتفاجأون به ستكون تجربتهم في الحب مختلفة تمامًا عن المستعدين له مسبقًا.
المستعد لتجربة الحب، المستوعب لبعض أسراره، يدرك جيدًا بأن الحب سيدعو إلى الوصال حتمًا، فيضع هذا المعنى نصب عينيه مسبقًا ويستحضره بوعيٍ وانتباه. ولا يغيب عن باله أنّ أعلى مستوى من الوصال بين الجنسين هو ذاك الذي يُترجم في الزواج والحياة المشتركة؛ وهذا أمرٌ لا يختلف حوله أي شعب أو ثقافة. ولأن الوصال الدائم واستمراريته هو المطلوب من وراء العشق، فالمستعد يعلم جيدًا أنّ عليه تأمين كل مستلزمات الزواج الناجح الضامن لاستمرارية الوصال. وهو يعلم أيضًا أنّ الزواج الناجح يعتمد كثيرًا على الانسجام بكل مراتبه وأبعاده الأساسية.
والمستعد مسبقًا يفكر جيدًا قبل اللقاء بالجنس الآخر. ولذلك لا تفاجئه الملاقاة أبدًا، أو تكاد. فإذا التقى بامرأة لأول وهلة، كانت شروط الانسجام حاضرة عنده قبل أي شيء. حتى إذا لم يجد ما يكفي من الشروط، أعرض ونأى بجانبه ولم يحصل له الانجذاب. فلا يدخل بعدها في محنة الحب وعذاباته.
تجده إذا رأى امرأة أعجبه حسنها، ثم التفت إلى ضآلة شخصيتها (بسبب انعدام الإيمان أو ضعف الانضباط والتقوى)، علم أنه إن أحبها فلن ينتهي أمره إلى الوصال حتمًا. وإذا عرف أنها متزوجة وقلبها مع إنسانٍ آخر، أدرك أن هذا الوصال غير ممكن، فلا ينجذب إليها ولا ينصرف قلبه نحوها منذ البداية.
الوصال المطلوب عند البشر هو الحياة المشتركة. أما ذاك الوصال الذي يتمحور حول قضاء الوطر والشهوة فهو بعيد كل البعد عن الحب وليس سوى نزوة عابرة، وقد يكون سببًا لزوال الانجذاب بالكامل.
الذين يصرون على اكتشاف الحب بالملاقاة لعلهم أتعس الناس طرًّا. فهم الذين يدخلون في جميع أنواع المخاطرات. وعلى رأس هذه المخاطرات اكتشاف عدم وجود انسجام بعد حصول الوصال.
العالم اليوم تسوده هذه الثقافة التي تروق للشباب كثيرًا، وتجد مبرراتها القوية في سعيهم لتحقيق الزواج الناجح. فبالنسبة لهم إن لم يكن الحب موجودًا، فلن ينجح الزواج، لذا لا بد من اكتشافه. ولا طريق للاكتشاف سوى الملاقاة (الاختلاط والتواصل والمواعدة و...).
يتجهون نحو الالتقاء بالجنس الآخر (حتى لو كان عبر الاتصال الجسماني)، لكي يكتشفوا الحب في أنفسهم وفي الطرف الآخر. وفي الوقت نفسه تجدهم جاهلين بمعايير الانسجام الذي هو روح الوصال وسر ديمومته؛ وذلك لأنهم لم يعرفوا أسرار نجاح الزواج والحياة المشتركة المستديمة، ولم يأخذوا هذا الأمر بعين الاعتبار منذ البداية.. ومع افتقاد المعايير أنّى لهم أن يدركوا حقيقة الحب! ومع ضياع هذه الحقيقة، يدخل هؤلاء التعساء في دوامة العذاب ومحنته المضنية.
نأسف لهم، لأن هذه المحنة مشغلة ومدمرة. تشغلهم عن الكثير من جماليات الحياة وفرصها العظيمة، وتدمر علاقتهم بالجنس البشري، لما يكتنفها من كره للآخر الذي تسبّب لهم بذلك العذاب والألم. ولولا الحاجة الماسة إلى الجنس الآخر، لربما أعرض كل من دخل في هذه المحنة عن الحب والوصال أبد الدهر، أكثر مما يُعرض من مر بتجربة الألم الرهيب في عيادة الأسنان أو العلاج الكيميائي.
أجل، نحن لسنا بحاجة إلى محنة الحب، وإن كنا نحتاج إلى الحب بقوة. ولأجل الوصول إلى هذا الحب الصافي ما علينا سوى أن نفكر بأسراره ونكتشف حكمته.
محمود حيدر
الشيخ جعفر السبحاني
الشهيد مرتضى مطهري
عدنان الحاجي
الشيخ محمد جواد البلاغي
الفيض الكاشاني
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد مهدي النراقي
حيدر حب الله
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب