خطبة للسيد حسن النّمر بعنوان: "نماذج من الهداية الرضوية" ألقاها في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات، يوم الجمعة 1445/11/15هـ
نماذج من الهداية الرضوية
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق، وأشرف الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين.ربّ اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي. اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وإن من التقوى أن نختار المنهج الصائب في مفاصل الحياة كلها، فإن الله تعالى يقول: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها، ولكن البر من اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها، واتقوا الله لعلكم تفلحون". ومن هذه المفاصل التي يجدر بكل واحد منّا، أن لا يعدوا الصواب فيها، هي أفعالنا وأقوالنا، وبمناسبه ذكرى مولد الإمام الثامن من أئمة أهل البيت عليهم السلام، أعني الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، التي مرت علينا قبل أيام، ارتأيت أن نقف على بعض المرتكزات في المنهج الصائب، من خلال مقولات هذا الإمام الهمام ورواياته، فأول هذه المرتكزات هو الوقوف على محددات الإيمان، فقد روى الشيخ الطوسي بسنده عن الإمام الرضا عليه السلام قال: حدثني أبي موسى الكاظم قال: حدثني أبي جعفر الصادق قال: حدثني أبي محمد بن علي الباقر قال: حدثني أبي علي بن الحسين قال: حدثني أبي الحسين السبط قال: حدثني أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: "الإيمان عقد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان".
وبمقتضى هذا الحديث النبوي الشريف، فإن الإيمان الحقيقي والصادق، ليس مجرد قناعات فكرية، حتى لو كانت راسخة، فإن هذا ركن واحد يشكل القاعدة لركنين آخرين هما:
أولًا: الأقوال التي يجب على المؤمن أن ينطق بها بلسانه، كالشهادة لله تعالى بالربوبية والألوهية والوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، وبالطبع فإنه يجب تجنب الأقوال المضادة، والمنافية للإيمان، قال تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم". فهناك إذًا كلمات تعبر عن الإيمان، وأخرى تعبر عن الكفر والنفاق، وعليه فإن على المؤمن أن يكون دقيقًا في اختيار كلماته.
ثانيًا: الأفعال الواجب على المؤمن أن يلتزم بها، وهي كل ما أوجب الله فعله، كالصلاة التي فرضها الله على جميع المكلفين، ولم يأذن في أن تترك بحال، وكالصوم في شهر رمضان على من يقدر عليه، والحج مرة واحدة في العمر على مستطيعه، وبالطبع فإن ثمة أفعالًا ينبغي على المؤمن أن يحرص على أدائها، وهي المندوبات والمستحبات، فإنها تعبر عن عمق إيمانه ومداه، وبهذا المرتكز يتبدد وهم قاتل قد يعشعش في ذهن بعض الناس، من أن الإيمان في القلب، وأنه لا ينبغي أن يحكم على أحد بخلاف الإيمان إذا أعلن بلسانه أنه من المؤمنين، ولو لم يترجم إيمانه المعلن بأفعاله وأقواله.
ولم يكتف الإمام الرضا عليه السلام برواية هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما كان يؤكده من خلال أجوبته على ما يتقدم به من الأسئلة، فقد أخرج الشيخ الصدوق بسنده عن أبي السلط الهروي قال: سألت الرضا عليه السلام عن الإيمان فقال: "الإيمان عقد بالقلب ولفظ باللسان وعمل بالجوارح لا يكون الإيمان إلا هكذا".
وأما ثاني المرتكزات، فهو تآزر العقل والنقل في معرفة الله، فلا غنى لأي منهما في تحصيل معرفة الله، فكل منهما أصيل في هذا الباب، ومثالًا على ذلك ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن عبد الله بن قيس عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال سمعته يقول: "بل يداه مبسوطتان" فقلت له: يدان هكذا، وأشرت بيدي إلى يده، فقال: "لا لو كان هكذا لكان مخلوقًا"؛ فقد آزر الإمام عليه السلام بين النقل الذي يثبت اليدين، والعقل الذي ينفي التركيب في الذات الإلهية، لأنه لا ينفك عن الحاجة والمخلوقية التي هي ضد للخالقية.
ومثالًا آخر على ذلك ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن الحسين بن خالد قال: سمعت الرضا علي بن موسى عليه السلام يقول: "لم يزل الله تبارك وتعالى عالـمًا قادرًا حيًّا قديـمًا سميعًا بصيرًا"، فقلت له يا ابن رسول الله، إن قومًا يقولون إنه عز وجل لم يزل عالـمًا بعلم، قادرًا بقدرة، وحيًّا بحياة، وقديـمًا بقدم، وسميعًا بسمع، وبصيرًا ببصر. فقال عليه السلام: "من قال بذلك ودان به، فقد اتخذ مع الله آلهة أخرى، وليس من ولايتنا على شيء". ثم قال عليه السلام: "لم يزل الله عز وجل عالـمًا قادرًا حيًّا قديـمًا سميعًا بصيرًا لذاته". تعالى الله عما يقول المشركون والمشبهون علوًا كبيرًا.
فالنقل يثبت الصفات المذكورة في الحديث لله تعالى، والعقل ينفي الإثنينية بين الصفة والموصوف؛ لأنها تثبت الشريك لله تعالى، وتنفي التوحيد بمعناه الدقيق، ومثالًا ثالثًا بيّن فيه الإمام عليه السلام، لزوم نفي النقل أو تأويله إذا نافاه العقل، وذلك فيما رواه الكليني وبسنده عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث، أن أدخله على أبي الحسن الرضا عليه السلام، فاستأذنته في ذلك فأذن لي، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام، حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد، فقال أبو قرّة: إنّا روّينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين، فقسم الكلام لموسى، ولمحمد الرؤية، فقال أبو الحسن عليه السلام: "فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس، لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علمًا، ليس كمثله شيء -هذه آيات متفرقه- أليس محمدًا!" قال بلى، قال: "كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعًا فيخبرهم أنه جاء من عند الله، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله، فيقول لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علمًا، وليس كمثله شيء، ثم يقول أنا رأيته بعيني! وأحطت به علمًا! وهو على صورة البشر! أما تستحون! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا، أن يكون يأتي من عند الله بشيء، ثم يأتي بخلافه من وجه آخر". قال أبو قرة فإنه يقول: "ولقد رآه نزلة أخرى". فقال أبو الحسن عليه السلام: "إن قبل هذه الآية -في المصدر بعد وهذا خطأ تصحيف- إن قبل هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: {ما كذب الفؤاد ما رأى}. يقول ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه، ثم أخبر بما رأى فقال: "لقد رأى من آيات ربه الكبرى". فآيات الله غير الله، وقد قال الله: "ولا يحيطون به علمًا" فإذا رأته الأبصار، فقد أحاطت به العلم، ووقعت المعرفة. فقال أبو قره: فتكذّب بالروايات! فقال أبو الحسن عليه السلام: "إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علمًا، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء" -انتهى الخبر-
وأما ثالث المرتكزات فهو الدقة في التعبير، ومثالًا على ذلك ما رواه الشيخ الكليني بسنده عن محمد بن الفضل عن الرضا عليه السلام أنه قال لبعض مواليه يوم الفطر وهو يدعو له: "يا فلان تقبل الله منك ومنّا، ثم أقام حتى كان يوم الأضحى، فقال له يا فلان تقبل الله منّا ومنك" -عبارة مختلفة فيها تقديم وتأخير- قال فقلت له يا ابن رسول الله قلت في الفطر شيئًا، وتقول في الأضحى غيره! قال، فقال: "نعم! إني قلت له في الفطر تقبّل الله منك ومنّا، لأنه فعل مثل فعلي وتأسيت أو واستويت أنا وهو في الفعل، وقلت له في الأضحى تقبل الله منا ومنك، لأنه يمكننا أن نضحي، ولا يمكنه أن يضحي، فقد فعلنا غير فعله".
وفي هذا الحديث ينبهنا الإمام الرضا عليه السلام إلى أن لا نتساهل في الكلام، فإن تقديم كلمة على أخرى قد يرشد إلى معنى يريده المتكلم، وتأخيرها يرشد إلى معنى آخر لا يريده المتكلم، ومثالًا آخر ما رواه الشيخ الحميري عن البزنطي قال: وسألنا الرضا عليه السلام، هل أحد من أصحابكم يعالج السلاح؟ -أي يصنعه- فقلت: رجل من أصحابنا زرّاد -بالزاء- فقال: "إنما هو سرّاد أما تقرأ كتاب الله عز وجل في قول الله لداوود عليه السلام، "أن اعمل في سابغات وقدّر في السرد! الحلقة بعد الحلقة".
ومثالًا ثالثًا ما رواه الكليني عن محمد بن زين الطبري، قال كنت قائمًا على رأس الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام بخراسان، وعنده عدة من بني هاشم، وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي، فقال: "يا إسحاق بلغني أن الناس يقولون إنا نزعم أن الناس عبيد لنا، لا وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله ما قلته قط، ولا سمعته من أحد من آبائي قاله، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله، ولكني أقول الناس عبيد لنا في الطاعة، موالٍ لنا في الدين فليبلغ الشاهد الغائب". والإمام هنا ينفي حالات الغلو التي بدأت تنتشر في زمانه.
وأما المرتكز الرابع فهو الفقه بمعناه الواسع، ومثاله ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام الرضا عليه السلام، الذي روى عن أبيه موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال: جاء رجل إلى الصادق عليه السلام فقال: قد سئمت الدنيا فأتمنى على الله الموت. فقال: "تمنّ الحياه لتطيع لا لتعصي فلأن تعيش فتطيع، خير لك من أن تموت فلا تعصي ولا تطيع". والذي يظهر من هذا الخبر أن هذا الرجل كان يحب الصلاح والطاعة، لكنه كان يعاني ككثير من الناس من ضعف الإرادة، فيقع في المعصية، لذلك تمنى أن يموت حتى لا يعصي، فنبهه الإمام عليه السلام إلى أن يتمنى الحياة، ويعزم على الطاعة.
وأما خامس المرتكزات فهو التواضع للخلق، فقد روى الشيخ الكليني بسنده عن عبد الله بن السلط، عن رجل من أهل بلخ قال: كنت مع الرضا عليه السلام في سفره إلى خراسان، فدعا يومًا بمائدة له، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلت: جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال: "مه! -أي اصمت اسكت- إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال".
وأخيرًا فإن حاجة الناس إلى الإمام الهادي إلى الصراط المستقيم، هي السبيل الحصري للنجاة من الزلل، وقد صدق مولانا الرضا عليه السلام حيث يقول: "من طلب الأمر من وجهه لم يزل".
نسأل الله أن نكون وإياكم من من يهتدي بهدي الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأئمة الهدى عليهم السلام، وممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة، وفي كل ساعة، وليًّا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليلًا وعينًا، حتى تسكنه أرضك طوعًا، وتمتعه فيها طويلًا. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واخذل الكفار والمنافقين، واردد كيدهم إلى نحورهم، واجعل تدميرهم في تدبيرهم، يا قوي يا عزيز، اللهم من أرادنا بسوء فأرده، ومن كادنا فكده، اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، وأغن فقراءنا، وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا، ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنّا يا كريم، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان