تحدّث سماحة الشيخ عبدالكريم الحبيل في خطبة له بعنوان: (القلب السليم في القرآن الكريم) بجزئها الرابع، وفيها أشار إلى صفة من صفات القلب السليم في القرآن الكريم، وهي الخشوع ، وذلك 25-10-2024 في مسجد الخضر عليه السلام في جزيرة تاروت - الربيعية.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله العظيم شأنه، الواضح برهانه. أحمده على حسن البلاء وتظاهر النعماء. وأستعينه وأتوكل عليه، وكفى به وكيلاً. وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، إلهاً واحداً صمداً، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً.
وأشهد أن حبيبه المجتبى وأمينه المرتضى، المحمود الأحمد، المصطفى الأمجد، أبا القاسم محمد، صلى الله عليه وآله، عبده ورسوله، ارتضاه لنفسه، وانتجبه لدينه، واصطفاه على جميع خلقه. فصلى الله عليه وآله صلاةً كثيرةً طيبةً ناميةً، زاكيةً متواصلةً لا ينقطع أولها ولا ينتهي آخرها. عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية. فإنها تبيّض الوجوه، وترضي الرب، وترفع الدرجة، وتكفّر السيئات، وتعظّم الأجر، وهو الفوز العظيم.
أما بعد، فإن أبلغ الحديث موعظة كتاب الله: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون". جعلنا الله وإياكم من خيرة عباده المتقين الصالحين، إنه سميع مجيب.
قال تعالى في محكم كتابه الكريم: "ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق". لا يزال حديثنا متواصلاً تحت عنوان: "القلب السليم في القرآن الكريم". وقد تحدثنا في الجمعة السابقة عن صفات النفس المطمئنة، استطراداً لصفة القلب المطمئن.
فالقلب السليم يكون مطمئناً، وصاحبه يكون ذا نفس كذلك مطمئنة. وذكرنا أن هناك سبع صفات رئيسية للنفس المطمئنة:
الإخلاص: إخلاص كامل لله سبحانه وتعالى في كل عمل.
المحبة لله سبحانه وتعالى: قال تعالى: "والذين آمنوا أشد حباً لله".
الرِّضا عن الله سبحانه وتعالى: فهي نفس راضية بما قسم الله لها، ومرضية عند الله جل جلاله. قال تعالى: "رضي الله عنهم ورضوا عنه".
الصدق مع الله سبحانه وتعالى: هذه النفس صادقة في علاقتها مع الله، ومع نفسها، ومع الآخرين.
الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وأولياء الله: جعلت من رسول الله صلى الله عليه وآله وأئمة الهدى وأولياء الله قدوةً لها في كل شيء.
التقوى في أعلى مراتبها: هي نفس متقية في أرفع درجات التقوى.
التولي لأولياء الله والتبرؤ من أعداء الله: فهي تتولى أولياء الله، وتعادي أعداءه، ولا يمكن أن توالي من حاد الله ورسوله.
في هذا اليوم نذكر صفة ثانية من صفات القلب السليم في القرآن الكريم، وهي الخشوع. القلب السليم يكون قلباً خاشعاً، خاشعاً لله سبحانه وتعالى. ومن أجلى صفات القلب السليم أن يكون قلباً خاشعاً لله جل جلاله.
الخشوع لغةً: هو الخضوع، الضراعة، والسكينة. الخشوع لله سبحانه وتعالى هو الضراعة والسكينة، وهو حالة في القلب تتمثل بالخوف، والمراقبة، والتذلل لعظمة الحق سبحانه وتعالى. ويقول علماء السير والسلوك وعلماء الأخلاق، كما يذكر الشهيد العظيم السيد عبد الحسين دستغيب رحمه الله في كتابه "القلب السليم": كيف يحصل الخشوع؟ كيف أستطيع أن أصل إلى درجة الخاشعين؟ باختصار شديد، يقول الشهيد دستغيب: الحصول على الخشوع يتحقق نتيجة إدراك عظمة الحق سبحانه وتعالى وقدرته جل جلاله.
فعندما يدرك الإنسان عظمة الله وقدرته، تحصل في قلبه حالة من الهيبة والخشية. ولهذا كان أئمتنا عليهم السلام، إذا قاموا بين يدي الله، ترتعد فرائصهم من خشية الله، ومن إدراك عظمته وقدرته جل جلاله. فإدراك عظمة الحق وجبروته، مع إدراك إكرامه وإحسانه، يولّد حالتين:
الهيبة: من عظمته وجبروته.
المحبة: من إحسانه وإنعامه ولطفه ورحمته.
عندما تمتزج الهيبة والمحبة في القلب، يولّد ذلك الخشوع لله سبحانه وتعالى.
الخلاصة:
الخشوع هو حالة في القلب من التذلل لعظمة الحق سبحانه وتعالى، ويحصل نتيجة: إدراك عظمة الله وجبروته. إدراك محبته وإحسانه ورحمته ونعمه جل جلاله.
فعند ذلك، تتحقق محبة لله سبحانه وتعالى وتمتزج بالهيبة منه، فيخشع القلب ويلين لله. هكذا أولئك العظماء وأولياء الله، عندما يقفون للعبادة بين يدي الله سبحانه وتعالى، يقفون بين يدي جبار السماوات والأرض، فترتعد لذلك فرائصهم، ثم يدركون نعمه وإحسانه، فيعبدونه حباً وشوقاً، فتخشع قلوبهم عندئذٍ.
باختصار شديد: الخشوع هو تذلل للمنعِم العظيم ممزوج بمحبة له. وقد جمعت هذه الحالة الآية الكريمة: قال تعالى: "الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء".
شرح الآية:
حالة من القشعريرة من مخافة الله. ثم لينٌ لإدراك محبة الله وشوق إليه. "ذلك هدى الله يهدي به من يشاء". هذه الحالة كما شرحها الشهيد العظيم، والعالم النحرير، والفقيه الكبير السيد عبد الحسين دستغيب، أعلى الله مقامه، هي ما تمثّل الخشوع في أسمى حالاته.
أما صفات الخاشعين في القرآن الكريم، صفات القلوب الخاشعة والخاشعين لله سبحانه وتعالى، فقد بيّن الله سبحانه وتعالى صفاتهم في كتابه الكريم.
أولاً: التواضع للحق سبحانه وتعالى. الخاشعون لله سبحانه وتعالى متواضعون لله جل جلاله. قال تعالى: "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين". الخاشعون هم المتذللون المتواضعون لله سبحانه وتعالى، الذين لا يستكبرون عن عبادته ولا يستنكفون. ليس في نفوسهم أي حالة من الاستكبار أو الاستنكاف عن عبادة الله سبحانه وتعالى، فلا يستكبرون عن عبادته جل جلاله، ولا يستنكفون عن الوقوف بين يديه.
ثانياً: قلوبهم الخاشعة مليئة بمخافة الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: "إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغَباً ورَهَباً وكانوا لنا خاشعين". الخاشعون، هنا بمعنى الخائفين من الحق سبحانه وتعالى. قلوبهم ممتلئة بخشية الله وخوفه، ويدعون الله رغبةً في رحمته ورهبةً من عذابه.
ثالثاً: جوارحهم ساكنة. الخشوع، بعد أن ملأ قلوبهم، ظهر على جوارحهم. فصارت جوارحهم ساكنة لله سبحانه وتعالى. قال تعالى: "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون". في صلاتهم خاشعون: تجلى ذلك الخشوع في كيانهم، ملأ قلوبهم وظهر في جوارحهم. حينما يقفون بين يدي الله، جميع جوارحهم تخشع لله سبحانه وتعالى. كما جاء في رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أنه رأى رجلاً يعبث في لحيته أثناء صلاته. بعض الناس قد يصلي وهو يعبث بجسده: يفرقع أصابعه، أو ينشغل بتعديل ملابسه أو ترتيب غترته أثناء الصلاة، وكأن وقت الصلاة هو الوقت الوحيد لهذه الأفعال! هؤلاء لا يدركون معنى الوقوف بين يدي الله. رأى رسول الله صلى الله عليه وآله رجلاً يعبث في لحيته أثناء صلاته، فقال صلى الله عليه وآله: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه".
المعنى: لو امتلأ قلبه بالخشوع، لظهر ذلك الخشوع في جوارحه، ولسكنت جوارحه لله سبحانه وتعالى. إذن من صفات الخاشعين لله أن تسكن جوارحهم، ذلك الخشوع لله يظهر جلياً في تصرفاتهم وجوارحهم، خصوصاً في الصلاة، حيث يكونون في حالة تامة من التذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى.
رابعاً: من صفات الخشوع أو معاني الخشوع: الخضوع لله سبحانه وتعالى والسكون له. قال تعالى: "وله ما سكن في الليل والنهار". حالة السكون للحق سبحانه وتعالى هي حالة تعبر عن الخضوع المطلق لله جل جلاله. وهذا السكون يظهر حتى في المخلوقات التي نعتبرها جمادات، وهو أمر عجيب يدل على خضوع الكون بأسره لله سبحانه وتعالى وملكوته.
أمثلة من الطبيعة على هذا السكون:
المياه: عندما تجري المياه في الأنهار والسواقي في النهار، تصدر صوتاً قوياً. ولكن إذا جاء الليل، نجد أن المياه تجري في حالة من السكون والهدوء، وبدون صوت. مع أن الكمية والسرعة لم تختلف، إلا أن الصوت يختفي في الليل.
الرياح: كثيراً ما نلاحظ أن الرياح تهدأ وتسكن عند حلول الليل.
الأشجار: بعض الأشجار تغلق أوراقها أو أزهارها عند الليل. مثال على ذلك، شجرة تسمى "نوام"، حيث تصف أوراقها عند حلول الليل. حالة الخضوع هذه ستتجلى بأكملها يوم القيامة، حينما تقف الخلائق بين يدي الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: "يومئذٍ يتبعون الداعي لا عوج له، وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً".خضوع الجميع في ذلك اليوم، هو خضوع مطلق للحق سبحانه وتعالى، حيث تسكن الأصوات في حالة خشوع.
خشوع الذل والمعاذ بالله:
هذا نوع آخر من الخشوع، وهو خشوع الذل، بعضه يظهر في الدنيا عند الكاذبين الذين يتظاهرون بالتقدس أمام الآخرين وهم كذابون. هؤلاء يظهرون للناس أنهم مقدسون، متعبدون، وأنهم يبكون أو يتباكون، بينما في حقيقة الأمر يرتكبون أبشع الجرائم والمعاصي، ويعتنقون أخبث الاعتقادات. هؤلاء الكاذبون يحاولون أن يظهروا أنفسهم وكأنهم أكثر عبادة وتنسكاً من رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، بل حتى من الأولياء والمراجع. تصرفاتهم يغلب عليها الرياء والتمظهر. يحاولون أن يظهروا بمظهر "الملكي أكثر من الملك" والمتعبد بصورة مبالغ فيها.
مصيرهم يوم القيامة:
هؤلاء يظهر عليهم الذل والمذلة يوم القيامة. قال تعالى عنهم: "خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة". أبصارهم تبدو خاشعة، ولكن في الحقيقة قلوبهم ليست خاشعة.
خشوع الإيمان مقابل خشوع الذل:
جاء في الدعاء: "اللهم إني أسألك خشوع الإيمان قبل خشوع الذل في النار".
الخشوع الكاذب:
هذا النوع من الخشوع، الذي ليس خشوعاً عن إيمان حقيقي، ينتهي بصاحبه إلى خشوع الذل في النار. أجارنا الله وإياكم من ذلك. طبعاً القلوب الخاشعة تقابلها القلوب القاسية، التي سنتحدث عنها لاحقاً ضمن صفات القلب المريض. جاء في الدعاء عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام وهو يناجي ربه في مناجاة العارفين: "إلهي، فاجعلنا من الذين ترسخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم".
أشجار الشوق:
امتلأت قلوبهم بالشوق لله، فأصبحت صدورهم كأنها حدائق مليئة بالنظر إلى معرفة الله، ومخافة الله، والإيمان بالله سبحانه وتعالى. قال عليه السلام: "إلهي، فاجعلنا من الذين ترسخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم، وأخذت لوعة محبتك بمجامع قلوبهم، فهم إلى أوكار الأفكار يأوون، وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون، ومن حياض المحبة بكأس الملاطفة يقرعون".
دعاء: اللهم اجعلنا من أولئك المتقين الصالحين الخاشعين. اللهم اجعل قلوبنا خاشعةً لك يا رب العالمين. اللهم اجعلنا من الذين استجابوا لله سبحانه وتعالى وهو يستحثهم بقوة: "ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق". اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.
أما بعد: ألا وإن أحسن الحديث موعظة كتاب الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم: "إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك واستغفره، إنه كان تواباً". وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (4)
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم