مقالات

المدح و مواضع حسنه وقبحه‏


الشيخ محمد مهدي النراقي ..
الغيبة لما كانت راجعة إلى الذم ، فضدها المدح ودفع الذم ، والبهتان لما كان كذبًا ، فضده الصدق.
وكما أن لكل واحدة من آفات اللسان مما مر ومما يأتي ضدًّا خاصًّا ، فكذلك لجميعها ضد واحد عام هو الصمت - كما أشير إليه فيما سبق أيضا وضد البهتان - أعني الصدق - يأتي في‏ مقام بيان الكذب.
وأما الضد العام لكل ، فقد يأتي في موضعه مع ما يدل بعمومه على ذم جميع آفات اللسان ، فهنا نشير إلى بيان المدح وما يحمد منه ، حتى يكون ضدًّا لها وفضيلة للقوة الغضبية أو الشهوية وما يذم منه حتى يكون رذيلة لأحدهما ، فنقول :
لا ريب في أن مدح المؤمن في غيبته وحضوره ممدوح مندوب إليه لكونه إدخالا للسرور عليه وقد علم مدحه وثوابه ، ولما ورد من أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أثنى على أصحابه  وأنه قال لجماعة - لما أثنوا على بعض الموتى : «وجبت لكم الجنة ، وأنتم شهداء اللّه في الأرض» ولما ورد من «أن لبني آدم جلساء من الملائكة ، فإذا ذكر أحد أخاه المسلم بخير قالت الملائكة : ولك مثله ، وإذا ذكره بسوء ، قالت الملائكة : يا ابن آدم المستور عورته اربع على نفسك! وأحمد اللّه إذ ستر عورتك» ولكنه ليس راجحًا مندوبًا على الإطلاق ، بل إذا سلم من آفاته ، وهي أن يكون صدقًا لا يفرط المادح فيه ، بحيث ينتهي إلى الكذب ، وألا يكون المادح فيه مرائيًا منافقًا ، بأن يكون غرضه إظهار الحب مع عدم كونه محبًّا في الواقع سواء كان صادقًا فيما ينسبه إليه من المدح أم لا، وألا يمدح الظالم والفاسق وإن كان صادقًا فيما يقول في حقه ، لأنه يفرح بمدحه وإدخال الفرح على الظالم أو الفاسق غير جائز، قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) : «إن اللّه ليغضب إذا مدح الفاسق» ، فالظالم الفاسق ينبغي أن يذم ليغتم ، ولا يمدح ليفرح ، وألا يقول ما لا يتحققه ولا سبيل له إلى الاطلاع عليه.
وهذه الآفة إنما تتطرق في المدح بالأوصاف المطلقة والخفية ، كقولك إنه تقي ورع زاهد خير أو قولك : إنه عدل رضى ، وأمثال ذلك ، لتوقف الصدق في ذلك على قيام الأدلة والخبرة الباطنة ، وتحققهما في غاية الندرة.
فالغالب أن المدح بأمثال ذلك يكون من غير تحقق وتثبت ، وألا يحدث في الممدوح كبرًا أو إعجابًا يوجبان هلاكه ، ولا رضى عن نفسه يوجب فتوره عن العمل ، إذ من أطلقت الألسنة بالثناء عليه يرضى عن نفسه ، ويظن أنه قد أدرك ، وهذا يوجب فتوره عن العمل ، إذ المتشمر له إنما هو من يرى نفسه مقصرًا ، ولذلك قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) : لرجل مدح بحضرته رجلا آخر : «ويحك! قطعت عنق صاحبك ، لو سمعها ما أفلح» وقال  (صلى اللّه عليه وآله) :
«إذا مدحت أخاك في وجهه ، فكأنما أمررت على حلقه الموسى» وقال أيضا لمن مدح رجلًا : «عقرت الرجل عقرك اللّه!» ، وقال (صلى اللّه عليه وآله) : «لو مشى رجل إلى رجل بسكين مرهف ، كان خيرًا له من أن يثنى عليه في وجهه».
والسر في هذه الأخبار : أن المدح يوجب الفتور عن العمل ، أو الكبر أو العجب ، وهو مهلك كقطع العنق والعقر وإمرار الموسى أو السكين على الحلق ، فإن سلم المدح عن الآفات المذكورة المتعلقة بالمادح والممدوح كان ممدوحًا ، وإلا كان مذمومًا ، وبذلك يحصل الجمع بين ما ورد في مدحه - كما تقدم - وما ورد في ذمه.
فاللازم على المادح أن يحترز عما تقدم من الآفات المتعلقة به ، وعلى الممدوح أن يحترز من آفة الكبر والعجب والفتور والرياء ، بأن يعرف نفسه ويتذكر خطر الخاتمة ، ولا يغفل عن دقائق الرياء ، ويظهر كراهة المدح ، وإليه الإشارة بقوله (صلى اللّه عليه وآله) : «احثوا التراب في وجوه المداحين».
وبالجملة : اللازم على الممدوح ألا يتفاوت حاله بالمدح ، وهذا فرع معرفة نفسه ، وتذكر ما لا يعرفه المادح من عثراته‏ وينبغي أن يظهر أنه ليس كما عرفوه ، قال بعض الصالحين لما أثنى عليه «اللهم إن هؤلاء لا يعرفوني وأنت تعرفني».
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) لما أثنى عليه : «اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ، ولا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني خيرًا مما يظنون».
ثم الظاهر عدم المؤاخذة والإثم بالانبساط والارتياح بالمدح ، لكون النفوس مجبولة على الفرح والسرور بنسبة الكمال إليها ، ولكن بشرط أن يكره من نفسه ذلك الارتياح ، ويقهر نفسه ويعاتبها على ذلك ، ويجتهد في إزالة ذلك عنها، إذ مقتضى العقل الفرح بوجود الكمال فيه لا بنسبته إليه ، فما ينسب إليه منه إن كان موجودًا فيه ، فينبغي أن يكون فرحه به لا بنسبته إليه إذ الانبساط بتصريح رجل بأنك صاحب هذا الكمال حمق وسفه.
وإن لم يكن موجودًا فيه ، فاللازم أن يحزن ويغضب ، لكونه استهزاء لا مدحًا ، والحاصل : أن العاقل ينبغي ألا يسر بمدح الغير ولا يحزن بذمه ، إذ من ملك ياقوتة شريفة حمراء أي ضرر عليه إذا قال رجل إنها خرزة ، وإذا ملك خرزة أي فائدة له إذا قال إنها ياقوتة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة