من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

الخوارج سياسياً وتاريخياً (3)

 

السيد جعفر مرتضى  
الخوارج في العهد العباسي :
كما أنّ الخوارج قد حاربوا العباسيين في مناسبات كثيرة ، ولكن بفعالية أقل ممّا كانت عليه في السابق ، فإنّ جذوتهم بدأت تخبوا ، وخطرهم بدأ ينحسر ، ولذا فلا نرى لتفصيل الكلام في حركاتهم كبير فائدة .
نعم ، لا بُدَّ من الإشارة إلى أنّ نحلة الخوارج قد ظهرت في أواخر العهد الأموي بين البربر في الشمال الإفريقي وقوى أمرهم ، وحاربوا حكّام تلك البلاد ، حتى سيطروا على القيروان إلى أن أخرجها منهم يزيد بن حاتم بن قبيصة ، الذي أرسله المنصور العباسي .
كما أنّ بعض أسر الخوارج قد حكمت تاهرت لأكثر من 130 عاماً حتى أزالهم عنها الفاطميون ، ولعلّ سرّ انتشار هذه النحلة بين البربر هو سذاجة هؤلاء وسطحيتهم آنئذٍ ، ثمّ انجذابهم إلى الشعارات البراقة التي كان الخوارج يرفعونها باسم الدين ، بالإضافة إلى الظروف الخاصة التي كان يعاني منها البربر .
ولكنّ هؤلاء البربر أنفسهم قد عادوا إلى التشيع بمجرّد ظهور الفاطميين ، وكانوا دعامة ملكهم ، وإن كان لا يزال البعض منهم يعتنق نحلة الخوارج ، ويعيشون في بعض المناطق في الشمال الإفريقي حتى الآن .


مفارقات هامّة في سياسات الخوارج :
ونجد أنّ المواقف السياسية للخوارج بعض المفارقات مثل :
ألف ـ ما يذكره البعض : من إنّهم قد بايعوا زيد بن عليّ ، حينما ثار على الحكم الأموي ، كما أنّ بعض شعرائهم وهو حبيب بن جدرة الهلالي قد رثاه حينما استشهد ، مع أنّ زيداً هذا هو حفيد عليّ (عليه السّلام) الذي قتلهم وأباد خضراءهم ، وكانت دعوته شيعية علوية خالصة .
ب ـ إنّ شيبان بن سلمة الخارجي ، زعيم الفرقة الشيبانية قد أعان أبا مسلم الخراساني القائم بأمر الدعوة العباسية ، وابن الكرماني على العامل الأموي نصر بن سيّار .
ج ـ إنّهم قد أعانوا ابن الزبير أيضاً ، حيث قد وجدوا : أنّ من واجبهم أن يمنعوا حرم الله من الغزو الأموي ، فذهبوا إلى ابن الزبير ، فأظهر لهم أنّه على رأيهم ، فقاتلوا معه أهل الشام ، ثمّ امتحنوه فظهر لهم أنّه مخالف لهم فتركوه وكان ذلك سنة 64ﻫ .
د ـ قال ابن خلدون : ( وولى مروان على العراق النضر بن سعيد الحريشي ، وعزل به عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ، فامتنع عبد الله بالحيرة ، وسار إليه النضر وتحاربا أشهراً ، وكانت الصفرية مع النضر عصبة لمروان ، لطلبه بدم الوليد ، وأمه قيسية ) .
ومن المعلوم  أنّ الصفرية هم إحدى فرق الخوارج الكبرى ولا سيما في أواخر العهد الأموي .
انحسار دعوة الخوارج وأسبابه :
قد تقدّم ما يوضّح بعض أسباب انحسار دعوة الخوارج عن مناطق الحركة العلمية ، والنشاط الثقافي ، والنفوذ والقوّة والازدّهار ليعيشوا في مناطق نائية حياة فيها الكثير من مظاهر الجهل والقسوة والبداوة ، وحرمهم إلى حدًّ كبير من المساهمة في المدّ الثقافي والعلمي الذي كان يزداد قوّة يوماً عن يوم ، ثمّ من التمّتع بكثير من الطيبات التي أحلّها الله لعباده ، حتى أصبحوا في نهاية الأمر لصوصاً سلابين كما أخبر به عليّ (عليه السّلام) ، ونصّ عليه عدد من المؤرّخين والباحثين .
ونؤكّد على أنّ ممّا ساهم في انحسار دعوتهم ، وتحجيم نشاطهم سرعة تفرّقهم ، وتشعّبهم فرقاً وأحزاباً ، بسبب إنّهم ـ كما قال عليّ (عليه السّلام) ـ : ( معاشر إخفّاء الهام سفهاء الأحلام ) الأمر الذي أعطى لأعدائهم الفرصة للاستفادة من هذه الحالة ، فكان المهلّب يحاول إلقاء الخلاف بينهم ، وقد نجح في ذلك إلى حدٍ ما .
ثمّ هناك تركيبتهم غير المتناسقة ، ثمّ ظروفهم الحياتية وحالتهم الفكرية والثقافية ، ثمّ طبيعة تعاليمهم التي كانت تنعكس على مواقفهم ، وعلى تحرّكهم السياسي والعسكري ، وغير ذلك ، وتؤثّر في حِدِّيتهم في مواقفهم ، وتجعلها تتسم بالعفوية والارتجال ، ولا تساعد على التخطيط السرّي المنظّم لها .
هذا كله بالإضافة إلى عدم وضوح كثير من الأمور الدينية لهم ، حيث لم يكونوا قادرين على التمييز بين الإيمان والكفر وموجباتهما .


تساهل الخوارج عبر الزمن :
ويلاحظ هنا : أنّه كلما طال العهد كلما اتجه الخوارج إلى التخفيف من حدّة تعاليمهم وعقائدهم ، تبعاً لازدياد معارفهم وإدراكاتهم لضرورات الحياة ، حتى لقد تساهلوا في موقفهم بالنسبة لأمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فقد جنح التناوتي إلى الاعتدال في مسألة الحكم على عليّ (عليه السّلام) وهي دائماً من أمّهات المسائل عند الأباضيّة ، فإنّ عمدة ومحور مذهب الخوارج ، والمبرر لوجودهم هو تكفير الخليفتين عثمان وعليّ (عليه السّلام)  ، بل لقد نقل لنا بعض الإخوان عن بعض علمائهم في الجزائر : إنّهم يظهرون الحبّ لعليّ وآله وينكرون أن يكون ابن ملجم قاتل عليّ (عليه السّلام) منهم ،  فإنّ صحّ هذا فإنّه يكون تطوراً جديداً وهامّاً جدّاً في مذهب الخوارج .

وإنّ تساهل الأباضيّة في كثير من الأمور ـ حتى أننا لا نجد إلاّ القليل من أوجه الشبه بينهم وبين أسلافهم في الصدر الأول ـ ليفسّر لنا بقاءهم على مرّ الزمن بينما نجد غيرهم من الفرق قد بادوا وانقرضوا بسرعة منذ القرون الأولى ،  فإنّ تساهلهم هذا  قد ساهم طبيعياً في إزالة كثير من نقاط الضعف التي سبقت الإشارة إلى بعضها .


عقائد الأباضيّة وفقههم :
وما دمنا في الحديث عن فرقة الأباضيّة ، فلا بأس بالإشارة إلى أنّه ربّما يتصوّر البعض : أنّ هذه الفرقة قد تأثّرت في عقائدها بالمعتزلة ، وذلك لمخالفتها أهل السنّة في أصول عقائدية هامّة حيث قالت: بعدم تجسيم الله تعالى ، وبعدم رؤيته تعالى في الآخرة ، وعدم قِدَم القرآن ، وعدم القول بالجبر والقدر .
ولكنّ الحقيقة هي : أنّ الخوارج لم يتح لهم الاختلاط بالمعتزلة ، ولا عايشوا التيارات الفكرية بصورة فعالة ، كما أنّ تفرقهم في البلاد البعيدة عن العواصم الإسلامية قد جعلهم في مأمن من المدّ العارم لأحاديث الإسرائيليات ، وبقوا في تعاملهم مع النصوص على طبعهم العربي الساذج ، وهذا يعني : أنّهم قد توصّلوا إلى آرائهم العقائدية تلك بأنفسهم ومن دون تأثّر بأحد .
نعم ، نجد في التاريخ : أنّ عبد الله بن أباض مؤسس الأباضيّة قد عاد إلى الاعتزال ، ولذلك  فإنّ أصحابه لا يعظمون أمره ، وذلك أمر آخر لا يرتبط بهذا الذي نحن بصدده .
ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى أنّ بعض فرق الخوارج كانت تعتقد بالمهدية ـ حسب بعض النصوص ـ وإن كانت سائر الفرق قد سكتت عن هذا الأمر وأغفلت التعرّض إليه .
وبالنسبة لفقه الأباضيّة ، وغيرهم ، فإننا نقول : إنّ صبغة الخوارج كانت أولاً سياسية ، ثمّ في عهد عبد الملك مزجوا تعاليمهم السياسية بأبحاث عقائدية ، وكان الخوارج الأولون يعتمدون على فهمهم الخاص للآيات القرآنية ، وعلى استنباطاتهم العقلية المحدودة في مجال التحدّيات العملية للتصرفات والمواقف التي كانت تفرض نفسها ـ آنياً ـ عليهم ، فكانت تلك الاستفادات والاستنباطات سريعة ومرتجلة تتسم بالسطحية ، وتهيمن عليها الميول ، والعواطف والأحاسيس ثمّ لا تلبث أن تتحوّل إلى مبدأ وعقيدة تزهق من أجلها النفوس وتبذل في سبيلها المهج .
ولكن ممّا لاشكّ فيه هو أنّ كثيراً من فتاواهم وآراءهم كانت جديرة بالاحترام والتقدير ، لأنّها مأخوذة من السيرة العملية التي كانت رائجة في الصدر الأول ، ونابعة من طبيعتهم البدوية الساذجة والصافية ، ومنساقة مع الفهم الفطري للآيات القرآنية ، وللسنّة النبويّة في أحيان كثيرة .
إلاّ أنّ التزامهم بالحرفية التامّة قد أدّى في حالات كثيرة إلى ظهور كثير من السخافات المضحكة ، بالإضافة إلى السطحية وقصور النظر ، ولكنّ المهمّ هو أنّ تلك الآراء والفتاوى الصحيحة عندهم ـ ولم تكن كثرتها كبيرة ـ قد كانت ـ طبيعياً ـ مجرّد حالات جزئية منفصلة تماماً عن كلّ ما سواها فلم يكونوا يملكون تصوّراً عامّاً ، ولا نظرة شمولية ، من شأنها أن تعطيهم القدرة على استيعاب المعارف المختلفة وتوجيهها وجهة صحيحة في مجال الاستنتاج وإدراك أبعاد الموضوع ، وما يرتبط به ، ولعلّ ذلك يفسّر لنا أمر عليّ (عليه السّلام) لابن عباس بأنّ ( لا تخاصمهم بالقرآن فإنّه حمّال ذو وجوه ) .
وبعد ، فإنّ حدّة الخوارج في مواجهة المخالفات كان من شأنه أن يضفي لوناً غير مرغوب فيه ، وينفر الناس منهم ومن آرائهم الفقهية حتى الصحيحة منها .
إلاّ أنّه وبسبب اتساع مدارك الخوارج ، وإدراكهم طرفاً من ضرورات الحياة ومقتضياتها قد اتجهوا ـ ونخصّ بالذكر الأباضيّة منهم ـ نحو التخفيف النسبي من حدّة بعض التعاليم والعقائد التي عرفت عنهم ، ثمّ وبسبب بُعد بلادهم عن الاهتمامات المباشرة للحكام ، ولأنّهم قد نعموا بالاستقرار النسبي ، فقد أتيحت لهم الفرصة للتأليف في عقائدهم وفقههم ، ويذكر ابن خلدون وغيره : إنّ مؤلفاتهم تلك ضاربة بسهم من إجادة التأليف والترتيب ، وبناء الفروع على أصولهم .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد