مقالات

الإمام السجاد ’ع’ ومركز القيادة الإعلامية

 

لا أحد ينكر الدور الذي لعبه الإعلام في التقلبات السياسية والحركة الفكرية على مر العصور  وإلى عصرنا الحاضر تعتبر منظومات التواصل بمختلف أنواعها وأساليبها مع الجماهير الأكثر تأثيراً في صناعة الرأي العام وفي تغيير المزاج الجماهيري وقولبته على النحو الذي تسعى إليه جهة ما.

 

فبعد النهضة الحسينية وما شملتها من التضحيات الجسيمة حيث يصفها الإمام  الحسن "ع" لأخيه الحسين "ع" بقوله:لا يَوم ْكَيَومِكَ يا أبا عَبّد ُالله, يزَدَلِفّ إليكَ ثَلاثونَ ألفَ رَجُلْ, يَدعّونَ أنَهمٌ ِمن ْأُمة جَدُنا مُحَمَد (ص), وَينتَحلِونَ ديّنُ الإسّلام, فيَجتمعون َعلى قتَلَكَ, وَسفّكِ دَمَُك, وآنَتِهاكِ حُرّمتِكَ, وَسبي ذّراريّك ونَسائُك .."، إلا أنه تعد مرحلة ما بعد كربلاء أخطر مما قبلها.

 

فما جرى في كربلاء من استباحة للإسلام وانتهاك لقيم الدين الحنيف وما أعقباها من محاولة التحريف والتزوير عبر إعلام بني أمية فقد كانت حركة الإمام السجاد"ع"  بمثابة مركز للقيادة الإعلامية تصدح لتصحيح ما قد انحرف أو زال  من الإسلام المحمدي الذي بذل أبيه "الحسين " مهجته دفاعاً عنه بقوله   ): خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي(.

 

وكان على الإمام السجاد عليه السلام أن يتولى المواجهة والتصحيح فقد كانت البداية في الشام حيث الدور الإعلامي أكثر تأثيراً من قعقعة السيوف وطعن الرماح مع ما يستبطن من فضح وكشف واحتمال تصفية وقتل ، فوقف الإمام السجاد في مجلس يزيد مسفّهاً الدعاوى الأموية التي حاولت تشويه نهضة الحسين عليه السلام، وتزييف أهداف ثورته.

 

ووضع الإمام السجاد أُولى العناوين العريضة في المسيرة التبليغية الإعلامية التي قادت وتقود مسيرة الإحياء العظيمة للنهضة الحسينية ،مؤكداً على الفرعونية الجديدة التي تتحكّم باسم الدين المتمثلة في يزيد بن معاوية .

 

وكذلك كانت الحوراء زينب (عليها السلام) ثورة إعلامية ثائرة لا تهدأ، تستقطب الجميع، وتستغل كل زمان ومكان مناسبين لتوضيح أسباب الثورة، وقداسة أهدافها ورجالها، وتكشف حقائقها ومعالمها، حتى تستطيع أن تهيئ الظروف السياسية المناسبة، وتوفر الأجواء الإعلامية الملائمة.

 

أما المرحلة الثانية التي تجلى فيها دور الإمام السجاد عليه السلام في قيادة مشروع الاِحياء وثورة التصحيح بالارتقاء بمهمته الرسالية إلى استكمال هذا المشروع وريادة هذه الثورة من خلال مدرسة علمية كبيرة بوجوده في المدينة المنورة حيث كانت تعجّ بكبار أهل العلم من حاضرة العلم الأولى في بلاد الإسلام ، يحملون عنه العلم والأدب ، وينقلون عنه الحديث وعلوم الشريعة من تفسير القرآن الكريم والعلم بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وأحكامه وآدابه ، والسُنّة النبوية الشريفة روايةً وتدويناً في عصر ما زال كتابة الحديث فيه متأثراً بما سلف من سياسة المنع من التدوين.

 

  كما تأدب على يديه كبار العلماء في مجالسه بآداب الإسلام التي شحنها في أدعيته التي اشتهرت وانتشرت في عهده حتى أصبحت تشكّل لوحدها ظاهرة جديدة في تبني أسلوب روحي متين, بالإضافة إلى أن الإمام عليه السلام سجل سابقةً علمية وتاريخية برسالة خالدةٍ استوعبت جلّ الحقوق التي لا يستغني الإنسان عن معرفتها والعمل بها وسميت تلك الرسالة بـ (رسالة الحقوق).

 

ولم يقتصر الإمام "ع"على إعطاء العلم بشتى أنواعه وآدابه وإنما واجه أيضاً مقولات عقائدية تبنتها فرق إسلامية وتمحورت حولها واتخذت منها مناهج خاصة في فهم عقائد الإسلام وتوجيه أحكامه , فما كان منه إلاّ أن وقف موقفه الواضح والمنسجم مع منهجه في التعليم والدفاع عن مبادئ الشريعة ، فضمّن أقواله الحكيمة وأدعيته المشتهرة نصوصاً تجتث تلك المقولات من جذورها ، ومن هذه المقولات عقيدتي الجبر والإرجاء اللتين روّج لهما الأمويون تبريراً لوجودهم في السلطة ولمشروعهم السياسي ، وعقيدتي التشبيه والتعطيل في الصفات اللتين اتخذتهما فرق متناقضة بذرائع مختلفة.

 

في زمن أختلط فيه الحابل بنابل فكان على الإمام السجاد"ع" أن يجذّر أمور أخرى في عقول وضمائر الجماعة المؤمنة التي يُراد لها أن تحفظ الإسلام عقيدةً ونظاماً ، شريعةً ومنهاجاً ، وليس شعاراً وسوقاً ، أو تجارة واستهلاكاً , فكانت مدرسة الإمام عليه السلام تقوم على عدة أسس أبرزها:

 

1- تركيز ثورة الإمام الحسين عليه السلام في ضمائر الناس لأنه خرج لطلب الإصلاح في أُمّة جدّه ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، داعياً لتحكيم دين الله وبهذا يكون الإمام قد فضح الشرعية المزيفة التي تقنّع بها الحكم الأموي ، وكشف زيف شعاراته الإسلامية العريضة ومزاعم انتمائه للنبي والوحي والرسالة الإسلامية ، وبالتالي يوضح معالم الإسلام المحمدي الأصيل والفرق بينه وبين الإسلام المدّعى الملفّع بتلكم الشعارات.

 

2- بناء القاعدة الجماهيرية الشعبية ، المؤهّلة لحفظ الرسالة وحدودها بعيداً عن الزيف والتزييف وسياسة تسطيح الوعي التي غطّت مساحات عريضة من الجمهور المسلم.

 

3- تعميق مفهوم الإمامة والولاية في الجماعة الخاصة بعد أن اهتزّت لدى العامّة تحت ضغط الإعلام المزيف وأبواقه المأجورة.

 

4- العمل بمنهاج دقيق  وتكتيك خاص يراعى فيها جبروت السلطة الحاكمة التي كانت تحسب على الإمام عليه السلام حركاته وسكناته ، وتعدّ عليه أنفاسه وكلماته من خلال أزلامها وجواسيسها المنتشرين في كل زاوية وزقاق.

 

واستشهد الإمام السجاد صلوات الله عليه في الليلة الخامسة والعشرين من شهر محرم الحرام عام أربعة وثمانين هجرية، مسموماً  حيث سَلمَتْ روح الإمام العظيمة إلى خالقها بعد أن أضاءت آفاق هذه الدنيا بعلومها وعباداتها وجهادها وتجرّدها من الهوى.

 

فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.

مواقيت الصلاة