قراءة في كتاب

الـمثقِّب العبديّ، الحكيم السّياسيّ والشّاعر الإنسان

يقول حسن كامل الصّيرفي في تحقيقه لديوان المثقِّب العبديّ وشرحه: "وعلى زرقة مياه الخليج العربيّ، تخفق فيها السّفن، وتترامى على شواطئه حبّات اللّؤلؤ، ممّا يستخرجه أهل هذه البلاد، وتحت ظلال النّخيل المتكاثف في هذه البقاع، تفتّحت عينا شاعرنا، يستلهم من جمال الطّبيعة وفتنتها ترنيماته، ويغوص وراء المعاني، ليستخرج من لآلئها حبّات أبياته، ومن لـحاظ الحسناوات تنطلق من بين براقعهنّ سهام الحبّ، تنفذ شاعريّته إلى الأفق البعيد، ثمّ تنضج هذه الشّاعريّة تحت شمس الصّحراء المحرقة، وهو يضرب في كبدها، منقّلاً بصره لينقل من كلّ ما يقع تحت عينيه صورًا صادقة.

 

ويتابع في وصف شعره قائلاً: إنّه يتميّز بدقّة الوصف وقوّة الملاحظة، مع رهافة الحسّ، وتوثّب الخاطر من غرض إلى غرض، إلى جانب ابتداع في المعنى، وابتداع في اللّفظ.

 

فأمّا دقّة الوصف وقوّة الملاحظة، فآيتهما في صور لاقطة لدقائق الأشياء، للهوادج ومن فيها من الحسان، وما عليهنّ من الثّياب والـحليّ، وللنّوق في إسراعها وهي تقطع الفلوات، تهبط في الأغوار، فلا تبين ثمّ تعلو مع الـحزوم، كأنّها السّفُ في خياله المتشرّب هذه الصّور من بيئته.

 

وأمّا رهافة الحسّ فآيتها في غزله الرّقيق الذي يصدّر فيه قصائده، وفي العذوبة التي تسري في موسيقاه الشّعريّة، وفي تخيّره اللّفظ الرّشيق للنّغم النّاعم الرّقيق.

 

وأمّا توثّب الخاطر من غرض إلى غرض، فيتجلّى في تنقّله الموفّق من الغزل إلى الوصف فالـمدح، ثمّ إجراء الحكمة بين هذا وذاك.

 

وأمّا ابتداعه في المعنى ففي المجاز الـمباعد للحقيقة، وأمّا ابتداعه في اللّفظ ففي ترخيم بعض الألفاظ، وتصرّفه في التّذكير والتّأنيث والمفرد والمثنّى والجمع.

 

وفي شعره تظهر سمات كثيرة منها: سمة الحكيم الزّاهد، وسمة السّياسيّ الماهر، وسمة الشّاعر الإنسان الّذي يريد السّلام لقومه بالوسيلة الّتي يراها هو.

 

والقصائد التي بقيت من شعر المثقِّب العبديّ أجراها على بحور الشّعر، وهي الطّويل والرّمل والوافر والسّريع، ويغلب البحر الطّويل على شعر المثقِّب، شأنه في ذلك شأن معاصريه، فإنّ هذا البحر هو أكثر البحور الشّعريّة استعمالاً عند الشّعراء الجاهليّين.

 

والمثقِّب العبديّ، هو عائذ بن مـحصن، المعروف بلقب الـمُثَقِّب، نسبة إلى قوله: (ظَهَرْنَ بِكِلَّةٍ وسَدَلْنَ أُخْرَى، وثَقَّبْنَ الوَصَاوِصَ لِلْعُيُونِ). والوصاوص هنا بمعنى البراقع؛ يريد منها النّظر إليها، وهي الـمحكمة الـمتقنة الضّيّقة، وقد ثقبت لتستطيع العيون أن ترى من ورائها.

 

ينتهي مساق نسبه عند عبد القيس، فيقال له العبديّ نسبة إليها، وهي القبيلة الكبيرة المتحدّرة من ربيعة، فنزلت عبد القيس في البحرين، الّتي كانت تضمّ مجموعة من الجزر الواقعة بين البصرة وعمان في الخليج العربيّ، وكانت عاصمتها "هجر"، و"هجر"، على الشّاطئ الغربيّ من الخليج العربيّ، فأجلت قبيلة إياد عنها، على حين بلغت بعض القبائل الأخرى نحو الشّمال، حتّى جاوزت سواد العراق مثل بكر وتغلب.

 

وكان "الخطّ" منزلاً من ديار عبد القيس بهذه المنطقة، تُرفأ إليه السّفن الّتي تجيء من الهند، وإليه تُنسب الرّماح الخطّيّة، والخطّ منطقة تشمل الكويت وقطر والقطيف.

 

ولم تهدأ الحياة طويلاً لهذه القبيلة بعد أن أجلت إيادًا عن البحرين وهجر، فكانت تلك الأرض التي استقرّت عليها هدفًا لملوك الـحيرة، يغزونها بإغاراتهم عليها، ويخضعونها لسلطانهم، ورغم ذلك كان المثقِّب على علاقة وثيقة بالملك عمرو بن هند، يثني عليه، ويتمنّى أن يشدّ الرّحال إليه، ثمّ كانت علاقة بين المثقِّب وبين النّعمان بن المنذر ابن أخي عمرو، الذي وليَ الحكم بعد موت عمّه بسبع سنوات، ورغم علاقته بالملكين، ترّفع المثقّب عن استجدائهما، فكان في شعره يصف الأوّل بالأخ، ويشكر الثّاني على صنيع قدّمه لأسرته.

 

تاريخ مولد المثقِّب العبديّ مجهول، أمّا تاريخ وفاته فمختلف فيه، فقد ذكر جرجي زيدان في "تاريخ آداب اللّغة العربيَّة" أنّ وفاة المثقِّب كانت سنة خمسمئة وعشرين للميلاد، ثمّ عاد فقال إنّها كانت سنة خمسمئة وسبعة وثمانين للميلاد، وعدّه من أهل العراق، كذلك حدّد لويس شيخو في كتابه "شعراء النّصرانيّة" عام خمسمئة وسبعة وثمانين تاريخًا لوفاته، وعدّه من أهل العراق.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد