مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

قبول التّوبة: هل هو عقليّ أم نقليّ؟

اتّفق علماء الأخلاق أنّ التّوبة الجامعة للشّرائط، مقبولة عند اللَّه تعالى، ويدلّ على ذلك الآيات والرّوايا ، ولكن يوجد نقاش حول قبول التّوبة، هل هو عقلي أم عقلائي، أم نَقلي؟.

ويعتقد جماعة، أنّ سقوط العقاب الإلهي، هو تفضّل من الباري تعالى، فبعد تحقّق التّوبة من العبد، يمكن للباري تعالى أن يتوب على عبده ويغفر له، أو لا يغفر له، كما هو الـمُتعارف بين النّاس، عندما يقوم أحد الأشخاص بظلم الغَير، فللمظلوم أن يغفر له، أو لا يعفو عنه.

وترى جماعةٌ أخرى، أنّ العقاب يسقط حتمًا بعد التّوبة، وعدم قبول عُذر المجرم، من اللَّه تعالى، بعيدٌ وقبيحٌ، ولا يصدر منه تعالى.

 

وهنا يمكن قبول رأي ثالث، وهو أنّ قبول التّوبة أمر عقلائيّ، يعني أنّ العقل وإن لم يوجب قبول التّوبة والعُذر، ولكنّ بناءَ العُقلاء في العالم كلّه، مبنيٌّ على قبول عذر الخاطئ، وإقالة عثرته، إذا ما عاد عن غَيّه، وأصلح أعماله السّيئة، وجَبر ما كسره، وأرضى خصمائه بطرق مختلفة، فهذا الموقف هو بناء العقلاء في العالم أجمع، فلو أصرّ شخص على نفي هذا المبدأ العقلائي، ولم يقبله في سلوكه اتجّاه الـمعتذر، فسيعتبر حقودًا وخارجًا عن موازين الإنسانية والأخلاق.

 

ولا شك أنّ اللَّه تعالى، وهو القادر والغني عن العالمين، أولى وأجدر من عباده بالعفو والمغفرة، وقبول عذر التّائب، وعدم إنزال العقاب عليه.

ويمكن القول بأكثر من ذلك، وهو وجوب قبول التّوبة، لدى العقل الذي يعتمد على قاعدة: «قُبح نَقض الغَرض».

وتوضيح ذلك: نحن نعلم أنّ الباري تعالى، غنيٌّ عن عباده وطاعة العالمين، وإن كلّفنا بشيء فهو لطفٌ من ، للسّير في خطّ التّكامل والتّربية، فالصّلاة والصّيام تربّيان النّفس وتُقرّبان الإنسان من اللَّه تعالى، وكذلك سائر الواجبات، فلها قسطٌ في عمليّة التّكامل الإنساني.

فنقرأ عن الحج : «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُم» «1».

ونقرأ في الآيات الأخرى، أنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر «2»، والصّوم سبب للتّقوى «3»، والزّكاة لتطهير الأفراد والمجتمع من الرذائل الأخلاقيّة والانحرافات «4».

 

واعتبرت الرّوايات الإيمان، سببًا للطّهارة من الشّرك، والصّلاة لِدرء الكِبَر عن الإنسان، والحجّ سببًا لوحدة المسلمين، والجهاد لِعزّة المسلمين.... «5».

وعليه فإنّ كلّ التّكاليف الإلهيّة، هي من أسباب سعادة الإنسان، وتكامله في خطّ الإيمان والحقّ والتّكامل، هذا هو الهدف الأصلي للإنسان، في دائرة الوصول لمرتبة القرب الإلهي، والعبوديّة الحقّة، قال الباري تعالى: «وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ» «6».

ولا شك فإنّ وجوب التّوبة، وقبولها من قبل الباري تعالى، يشكّل إحدى حلقات التّكامل المعنوي للإنسان، لأنّ الإنسان من طبيعته الخطأ، فإذا أوصد الباب دونه، فلن يتكامل أبداً.

وإذا ما أحيط الإنسان علمًا بالتّوبة، وأنّ الباري فتح الباب أمامه بشرط إصلاح ما مضى، فمثل هذا الإنسان يكون أقرب للسّعادة والتّكامل، ويبتعد عن الانحراف والخطأ في مسيرة الحياة.

 

والنّتيجة: إنّ عدم قبول التّوبة يؤدي إلى نقض الغرض، لأنّ الهدف من التّكاليف والطّاعة، هو تربية وتكامل الإنسان، وعدم قبولها لا ينسجم مع هذا الغرض، ومن البعيد عقلًا على الحكيم، أن ينقض غرضه.

وعلى كلّ حال، فإنّ التّوبة وقبولها لها علاقة وثيقة بالتّكامل الإنساني، وبدونها سينتفي الدّافع والقصد للتّكامل، وسيكون الإنسان في غاية اليأس من النّجاة، مما يشجعه على الّتمادي في ارتكاب المعاصي وممارسة الجريمة، ولذلك فإنّ كلّ المربّين، سواء كانوا إلهيين أم ماديّين، يؤكّدون على مسألة التّوبة، ويجعلون الطّريق مفتوحًا دائمًا أمام الخاطئين، كي يحرّكوا فيهم روح الإنابة، ودافع الإصلاح والحركة نحو الكمال الـمطلق.

وعليه فإنّ التوبة بشرائطها، لم تحكم بها الآيات والرّوايات فقط، بل هي ثابتة بحكم العقل وسيرة العقلاء، وهذا أمر لا يمكن تجاهله البتّة.

ــــــــــــــــــــــ

( 1 ) . سورة الحج ، الآية 28

( 2 ) . سورة العنكبوت ، الآية 45

( 3 ) . سورة البقرة ، الآية 183

( 4 ) . سورة التوبة ، الآية 103

( 5 ) . نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، مقتبسة من جملة رقم ( 252 )

( 1 ) . سورة الذّاريات ، الآية 56

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد