عندما يتحدث القرآن الكريم عن رسالات الأنبياء السابقين فإنه في نفس الوقت الذي يتكلم عن الجانب العقدي في دعوة أولئك الرسل، لابد أن يوجه إلى أمر اجتماعي فاسد يراد إصلاحه، فها هو يتحدث عن قوم مدين في ذلك الوقت (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ)[1].
فشعيب الذي كان أخاهم أي منهم، وإنما بعث كذلك لأنه أقدر على فهم عقلياتهم وطريقة التخاطب معهم، وهو بذلك غير مستنكر وغير منفي اجتماعياً، فإن الغريب كثيراً ما كان غير مقبول.
ولو لاحظنا أن دعوته لم تقتصر على الجانب العقدي وهو اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وإنما أشار إلى وجود خلل اقتصادي كبير وهو التطفيف ونقص المكاييل والموازين، وأنه يحذرهم من مستقبل مظلم، بالرغم من أن واقعهم كان حسنًا، وهو يراهم بخير، لكن المجتمع الذي يعتمد الغش والخداع لا يلبث أن يدمر الثقة، وينتهي اقتصاده إلى الشلل. ولهذا وعدت آيات أخرى بالويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون.
ونقص المكيال والميزان عنوان عام، يندرج تحته آلاف الأمثلة والموارد، فتصور أن بناية يفترض أن تبنى لسكن المئات من الناس، فيقوم المقاول بالتطفيف ونقص المكيال فبدلًا من طن الحديد يجعله نصف طن، وهكذا الإسمنت، ولك أن تتصور الكارثة التي تحدث بعدئذ!
(وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)[2]. بعد أن أشار القرآن إلى التطفيف في المجال الاقتصادي، تناول التطفيف في الجانب الاجتماعي، ومثل له ببخس الناس حقوقهم وأشياءهم، مثل أن تُسأل عن شخص صاحب كفاءة متميزة، فبدل أن تعطيه ما يستحق من الثناء والتقديم، تختصر حقه، فإذا كان عالماً مجتهداً مثلاً تقول عنه مجرد طالب علم، وإذا كان يحمل الدكتوراه في تخصصه تشكك في ذلك. وهكذا.
ثم منع عن الفساد بشتى أشكاله، وقال (لا تعثوا في الأرض مفسدين) وإذا كان البعض يتصور أنه بالالتزام بالقوانين الإلهية سوف يفوت عليه ربح ومنفعة، فإنه خاطىء بل ما يبقى بعد ذلك هو الخير الحقيقي والربح الباقي (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين).
لوط والإصلاح الأخلاقي:
وإذا كان الفساد الاقتصادي كمرض اجتماعي هو محطّ نظر نبي الله شعيب فإن نبي الله لوطًا قد توجه إلى مشكلة أخلاقية جنسية سيئة كانت في المجتمع الذي بعث فيه، فركز على الدعوة إلى تركها، وهي مشكلة الشذوذ الجنسي (اللواط) والتي كانت موجودة في ذلك المجتمع.
(وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ)[3].
وقد كانوا يأتون شهوتهم الجنسية فيما بينهم، ويمارس الرجل مع الرجل ما كان ينبغي أن يمارسه مع المرأة [4].
وهذه المعصية مضافًا إلى كونها عملاً قبيحًا جدًّا- لم يفعلها أحد قبلكم من الأقوام- وبذلك يكون قبح هذا العمل الشنيع مضاعفًا، لأنّه أصبح أساسًا لسنّة سيئة، وسببًا لوقوع الآخرين في المعصية عاجلًا أو آجلًا.
ويستفاد من الآية الحاضرة أنّ هذا العمل القبيح ينتهي- من الناحية التاريخية- إلى قوم لوط، وكانوا قومًا أثرياء مترفين شهوانيين... وفي الآية اللاحقة يشرح المعصية التي ذكرت في الآية السابقة ويقول: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ). وأي انحراف أسوأ وأقبح من أن يترك الإنسان وسيلة توليد النسل وإنجاب الأولاد، وهو مقاربة الرجل للمرأة، والذي أودعه اللّه في كيان كل إنسان بصورة غريزية طبيعية، ويعمد إلى «الجنس المماثل»، ويفعل بالتالي ما يخالف- أساسًا- الفطرة، والتركيب الطبيعي للجسم والروح الإنسانيين، والغريزة السوية الصحيحة، وتكون نتيجة عقم الهدف المتوخى من المقاربة الجنسية.
وبعبارة أخرى: يكون أثره الوحيد، هو الإشباع الكاذب والمنحرف الجنسية، والقضاء على الهدف الأصلي، وهو استمرار النسل البشري. ثمّ يقول تعالى في نهاية الآية: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي تجاوزتم حدود اللّه، ووقعتم في متاهة الانحراف والتجاوز عن حدود الفطرة.
ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى أنّهم لم يسلكوا سبيل الإسراف في مجال الغريزة الجنسية فحسب، بل تورطوا في مثل هذا الانحراف والإسراف في كل شي، و في كل عمل[5].
بل إن دعوة الأنبياء العقدية بالإيمان بالله حيث لا إله غيره كانت مقترنة بالدعوة إلى الإصلاح، وترك الفساد بشتى صوره، ومبررات ذلك أن الله بعدما خلق لهم هذه الأرض جعلهم فيها خلفاءه، وطلب منهم إعمارها وإحياءها، فلا يصح بعد ذلك أن يقوموا بإفسادها وتدميرها.. ها هو نبي الله صالح يبين لقومه هذه الفكرة بوضوح (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)[6].
لا تدمروا الأرض ولا تخربوها استثمروها في طريق عبادة الله لا تكفروا بنعمة الله التي جعلها على هذه الأرض.. (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ)[7]، وكذلك نبي الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأتي برسالة ويقول قولوا لا إله إلا الله تفلحوا مطلقاً في هذه الأيام بعد أربعين سنة بعد مائة سنة ويوم القيامة وتدخلوا الجنة ويحصل لكم الفلاح (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا)[8]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ "متى؟" إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) [9]، يعطيكم الحياة والتقدم والبناء، وما به قوام حياتكم يرشدكم إليه رسول الله.
هذه النظرية الثانية هي التي تشير إليها آيات القرآن الكريم، بل جاءت بها ديانات السماء قائلة إنه إضافة إلى العقائد والنظام الأخلاقي يوجد هناك قانون تشريعي يرسم الخريطة الصحيحة لبناء المجتمع. وهذا ما لم يفهمه قسم من الكفار لذلك وقفوا يحتجون على الأنبياء، فها هم قوم شعيب يقولون له: قلت لنا عبدوا الله! حسناً سنعبد ال،له فما ربط عبادة الله بالموازين والقسط؟!! (قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء) [9].
نحن نريد أن نتصرف في أموالنا كيفما نشاء ـ نرابي ونطفف ونقامر - فما ربط الصلاة في الأموال؟ وهل تستطيع صلاتك أن تلغي تاريخنا كله وعاداتنا الاجتماعية، وتسلب منّا حريتنا في التصرف بأموالنا كما نشاء؟ والفرض أنك إنسان عاقل تعرف الصلاة وحدودها، والسوق ومتطلباته وهي تختلف عن متطلبات الصلاة! (إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ).
لقد احتج قوم لوط على نبيهم بأنه لا تخالف بين إيمانهم بالله واعتقادهم به، وبين أن يفعلوا في شهواتهم ما يشاؤون! وهكذا الحال بالنسبة لكفار قريش كانوا لا مانع لديهم من الناحية النظرية أن يؤمنوا بالله، لكن بشرط أن لا يؤثر ذلك على اقتصادهم وعبيدهم وسياستهم وهكذا! (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)[10].
المشكلة التي كانت تؤرق الجاحدين والكفار هي ما وراء هذا الإيمان القلبي، فهذا موسى يقول: (يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ)[11]، ولم يكن ذلك استثنائيًّا لفرعون، غير أن الاستثنائي بالنسبة له هو قوله (فأرسل مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، هذه هي العقدة وهو أنني صاحب رسالة تحرير لهذا المجتمع الإسرائيلي.
ولك أن لا تذهب بعيداً، بل انظر في الرسالة العملية وهي تعبر عن الأحكام الفقهية المرتبطة بالمكلفين، سترى فيها أحكام العبادات، وهي تمثل العلاقة بين المكلف وبين خالقه، وفيها أيضًا أحكام المعاملات وهي تلك التي هي تنظم جملة حياته.. كيف يبني علاقته الزوجية؟ كيف يضارب وينمي ماله بالحلال؟ كيف يبيع؟ كيف يؤجر؟ وكيف يستأجر؟ وهذا يشير إلى كون الدين نظامًا عامًّا للحياة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة هود: 84
(2) هود 85
(3) العنكبوت 28 ، 29
(4) في محاولة من التشريع الإسلامي لقطع هذا المرض الأخلاقي فقد شدد النكير على من يمارسه (فاعلًا ومفعولًا به) وتحدثت النصوص الإسلامية عن ثلاثة مستويات: التشديد في العقوبة الدنيوية حيث أن الفاعل إذا ثبت عليه ذلك عوقب بالقتل بالسيف أو الإحراق بالنار أو الإلقاء من شاهق.. ومنها العقوبة الأخروية وهي مشددة مذكورة في كتب عقاب الأعمال، ومنها الآثار الوضعية للواط في الدنيا وهي حرمة أخت وبنت وأم الملوط على اللائط. كما ذكر الفقهاء.
(5) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج5، ص: 107
(6) هود 61
(7) الجن 16
(8) الأنفال 24
(9) هود87
(10) لقمان 25.
(11) الأعراف 104
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
عدنان الحاجي
الأستاذ عبد الوهاب حسين
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
هل خلق آدم للجنّة أم للأرض؟
معنى (الدعاء الملحون)
اختلاف آراء الفلاسفة المادّيّين في حقيقة المادّة
كتاب الدّين والضّمير، تهافت وردّ
عوامل احتمال الإصابة بالسّكتة الدّماغيّة الحادّة
صراع الإسلام مع العلمانية
طريقة إعداد البحث
القانون والإيمان باللّه
المادة والحركة
فهم عالم المراهقة، محاضرة للعليوات في برّ سنابس