إنّ لفظي: «إله» و «اللَّه» من باب واحد، فما هو المتفاهم من الثاني أي «اللَّه» هو المتفاهم من الأوّل أي «إله». وإن كانا يختلفان في المفهوم اختلاف الكلّي والفرد.
غير أنّ لفظ الجلالة علم لفرد من ذاك الكلّي ولمصداق منه، دون ال «إله» فهو باق على كلّيته وإن لم يوجد عند الموحّدين مصداق له بل انحصر فيه. فكما أنّه لا يحتاج في الوقوف على معنى لفظ الجلالة إلى التعريف فلفظة «إله» مثله أيضاً، إذ ليس ثمة من فارق بين اللفظتين إلّا فارق الجزئية والكلّية، فهما على وجه كزيد وإنسان، بل أولى منهما لاختلاف الأخيرين (زيد وإنسان) في مادة اللفظ بخلاف «إله» و «اللَّه» فهما متحدان في تلك الجهة، وليس لفظ الجلالة إلّا نفس إله حذفت همزته وأُضيفت إليه «الألف واللام» فقط، وذلك لا يخرجه عن الاتحاد، لفظاً ومعنى.
وإن شئت قلت: إنّ ههنا اسماً عاماً وهو «إله» ويجمع على «آلهة» واسماً خاصاً وهو «اللَّه» ولا يجمع أبداً. ويرادفه في الفارسية «خدا» وفي التركية «تاري» وفي الإنگليزية «گاد». غير أنّ الاسم العام والخاص في اللغة الفارسية واحد وهو «خدا» ويعلم المراد منه بالقرينة، غير أنّ «خداوند» لا يطلق إلّا على الاسم الخاص. وأمّا «گاد» في اللغة الإنجليزية فكلّما أُريد منه الاسم العام كتب على صورة «god» وأمّا إذا أُريد الاسم الخاص فيأتي على صورة «God» وبذلك يشخّص المراد منه.
ولعل اختصاص هذا الاسم (اللَّه) بخالق الكون كان بهذا النحو: وهو أنّ العرب عندما كانت في محاوراتها تريد أن تتحدث عن الخالق كانت تشير إليه ب «الإله» أي الخالق، والألف واللام المضافتان إلى هذه الكلمة كانتا لأجل الإشارة الذهنية (أي الإشارة إلى المعهود الذهني)، يعني ذاك الإله الذي تعهده في ذهنك وهو ما يسمّى في النحو بلام العهد، ثم أصبحت كلمة «الإله» مختصة في محاورات العرب بخالق الكون ومع مرور الزمن انمحت الهمزة الكائنة بين اللامين وسقطت من الألسن وتطوّرت الكلمة من «الإله» إلى «اللَّه» التي ظهرت في صورة كلمة جديدة واسم خاص بخالق الكون تعالى وعلماً له سبحانه «1».
وإلى ما ذكرنا يشير العلامة الزمخشري في «كشّافه»: [ «اللَّه» أصله: « الإله»، قال الشاعر: معاذ الإله أن تكون كظبية * ولا دمية ولا عقيلة ربرب «2». ونظيره: الناس أصله: الأناس، فحذفت الهمزة، وعوض عنها حرف التعريف، ولذلك قيل في النداء: ياللَّه، بالقطع، كما يقال: يا إله، والإله من أسماء الأجناس كرجل وفرس ] «3».
وينقل العلامة الطبرسي في «تفسيره» عن سيبويه أنّ «اللَّه» أصله «إله» على وزن فعال فحذفت فاء فعله، وهي الهمزة، وجعلت الألف واللام عوضاً لازماً عنها، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الداخلة على لام التعريف في القسم والنداء في قوله: يا اللَّه اغفر لي، ولو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل كما لم تثبت في غير هذا الاسم «4».
وقال الراغب في «مفرداته»: «اللَّه أصله إله فحذفت همزته وأدخل عليه الألف واللام، فخصّ بالباري ولتخصّصه به قال تعالى: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً» «5».
وعلى ذلك فلا نحتاج في تفسير «إله» إلى شيء وراء تصوّر أنّ هذا اللفظ كلّي، لما وضع عليه لفظ الجلالة. وبما أنّ هذا اللفظ من أوضح المفاهيم، وأظهرها فلا نحتاج في انفهام اللفظ الموضوع الكلّي إلى شيء أبداً. نعم أنّ لفظ الجلالة وإن كان علماً للذات المستجمعة صفات الكمال، أو الخالق للأشياء، إلّا أنّ كون الذات مستجمعة لصفات الكمال، أو خالقاً للأشياء، ليس من مقوّمات معنى الإله، بل من الخصوصيات الفردية التي بها يمتاز الفرد عمّن سواه من الأفراد، وأمّا الجامع بينه وبين سائر الأفراد، أو التي ربما تفرض (لا المحقّقة) فهو أمر سواه...
ويؤيد وحدة مفهومهما، بالذات، مضافاً إلى ما ذكرناه من وحدة مادتهما: أنّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله «6» أي على وجه الكلّية والوصفية، دون العلمية فيصح وضع أحدهما مكان الآخر، كما في قوله سبحانه: «وَهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ وَفي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ماتَكْسِبون» (الأنعام - 3). فإنّ وزان هذه الآية وزان قوله سبحانه: «وَهُوَ الّذي في السَّماءِ إلهٌ وَفي الأرْضِ إلهٌ وهُوَ الحَكِيمُ العَليم» (الزخرف - 84). «وَلا تَقُولوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إنَّما اللَّهُ إلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ» (النساء - 171). «هُوَ اللَّهُ الَّذي لا إلهَ إلّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهيمِنُ العَزيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يُشْركُون» « هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارئُ المُصَوّرُ لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السّمواتِ وَالأرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيم» (الحشر : 23 - 24).
ولا يخفى أنّ لفظة الجلالة في هذه الموارد وما يشابهها يراد منه ما يرادف الإله على وجه الكلية، (أي ما معناه أنّه هو الإله الذي يتصف بكذا وكذا). ويقرب من الآية الأُولى قوله سبحانه: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أوِ ادْعُوا الرَّحمنَ أيّاً ما تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْماءُ الحُسْنى» (الإسراء - 110) فإنّ جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء والأمر بدعوة أيّ منها، ربما يشعر بخلوّه عن معنى العلمية، وتضمّنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ: «الإله» وغيره، ومثله قوله سبحانه: «هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْماءُ الحُسْنى» (الحشر - 24) فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلّية لا العلمية الجزئية، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.
نعم، ربما يقال من أنّ لفظ الجلالة من إله بمعنى عبد، أو من إله بمعنى تحيّر، لأجل أنّ العبد إذا تفكّر فيه تحيّر، أو من إله معنى فزع لأنّ الخلق يفزعون إليه في حوائجهم، أو من إله بمعنى سكن لأنّ الخلق يسكنون إلى ذكره. أو أنّه متّخذ من لاه بمعنى احتجب لأنّه تعالى المحتجب عن الأوهام، أو غير ذلك ممّا ذكروه «7» ولكن ذلك مجرد احتمالات غير مدعمة بالدليل، وعلى فرض صحتها، أو صحة بعضها فلا تدل على أكثر من ملاحظة تلك المناسبات يوم وضع وأُطلق لفظ الجلالة أو لفظ الإله عليه سبحانه، وأمّا بقاء تلك المناسبات إلى زمان نزول القرآن، وأنّ استعمال القرآن لهما كان برعاية هذه المناسبات فأمر لا دليل عليه مطلقاً.
والظاهر أنّ هذه المعاني من لوازم معنى الإله وآثاره، فإنّ من اتّخذ أحداً إلهاً لنفسه فإنّه يعبده قهراً، ويفزع إليه عند الشدائد، ويسكن قلبه عند ذكره، إلى غير ذلك من اللوازم والآثار التي تستلزمها صفة الإلوهية، ولو لاحظ القارئ الكريم الآيات التي ورد فيها لفظ الإله، وما احتفّ بها من القرائن لوجد أنّه لا يتبادر من الإله غير ما يتبادر من لفظ الجلالة، سوى كون الأوّل كلّياً والثاني جزئياً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). في هذا الصدد نظريات أخرى أيضاً راجع لمعرفتها تاج العروس: 9 / مادة «إله».
(2). استعاذ الشاعر باللَّه من تشبيه حبيبته بالظبية أو الدمية، والربرب هو السرب من الوحش.
(3). الكشاف: 1 / 30، تفسير البسملة.
(4). مجمع البيان: 1 / 19، طبعة صيدا.
(5). مفردات الراغب: 31، مادة إله.
(6). استعمالًا مجازيّاً مثل قول القائل: هذا حاتم قومه ويونس أبنائه.
(7). راجع مجمع البيان: 9 / 19.
الشيخ محمد جواد مغنية
محمود حيدر
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
السيد عبد الأعلى السبزواري
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي رضا بناهيان
الفيض الكاشاني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا
ماهية الميتايزيقا البَعدية وهويتها*
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (1)
انتظار المخلّص بين الحقيقة والخرافة
تلازم بين المشروبات المحلّاة صناعيًّا أو بالسّكّر وبين خطر الإصابة بمرض الكلى المزمن
أسرار الحبّ للشّومري في برّ سنابس
الميثاق الأخلاقي للأسرة، محاضرة لآل إبراهيم في مجلس الزّهراء الثّقافيّ
الشيخ عبد الكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (9)
البسملة
لماذا لا يقبل الله الأعمال إلا بالولاية؟