قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

آيات الله في خلق الجبال‏ (1)

الكلُّ يعرفُ بشكل عام أنّ القُرى‏ وأغلبَ المدن المهمّة تقع في سفوح الجبال الشامخة وتقع فيما بينها، وأنَّ الأنهار الكبيرة التي هي عمادُ ازدهار المدن تنبعُ من الجبال الشاهقة. إنَّ دورَ الجبالِ في حياة الإنسان لا ينحصر بذلك فقط على‏ الرغم من أهميّة هذا الدور.

 

فالجبالُ لها دورٌ مهمٌ جدّاً في حياة الإنسان بل جميع الموجودات التي تعيش على‏ الأرض، وفوائدها وبركاتُها عديدةٌ جدّاً، ولا نُبالغ إذا قلنا باستحالة الحياة على‏ الأرض بدون وجود الجبال. ولهذا فإنَّ القرآن الكريم أشار في آياتٍ كثيرة إلى‏ مسألة خلقِ الجبال كإحدى‏ آيات التوحيد وبراهينه على‏ علم وقدرة الخالق جلَّ وعلا.

 

بعد هذه المقدمة نقرأ خاشعين الآيات الآتية:

 

1- {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلىَ الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وإِلىَ السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ}. (الغاشية/ 17- 19)

 

2- {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوتَاداً}. (النبأ/ 6- 7)

 

3- {وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيْهَا رَواسىَ وَأَنْهَاراً}. (الرعد/ 3)

 

4- {وَألْقَى‏ فِى الأَرْضِ رَواسِىَ أَنْ تَمِيْدَ بِكُمْ وَأنْهَاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. (النحل/ 15)

 

5- {وَجَعلْنَا فِى الأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيْدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}. (الانبياء/ 31)

 

6- {وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِىَ مِنْ فَوقِهَا وَبَارَكَ فِيهَآ وَقَدَّرَ فِيْهَا أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسّآئِلِيْنَ}. (فصلت/ 10)

 

7- {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وأَسْقَينَاكُمْ مَّآءً فُرَاتاً}. (المرسلات/ 27)

 

8- {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلَالَها أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلهٌ مَّعَ اللَّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُوْنَ}. (النمل/ 61)

 

9- {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً}. (النحل/ 81)

 

10- {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيْضٌ وحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوانُهَا وَغَرابِيْبُ سُودٌ}. (فاطر/ 27)

 

شرح المفردات:

 

«جبل»: على‏ وزن‏ (عَسَلْ)، بالرغم من أنّ بعض أرباب اللغة فسَّرها بأنّها المفردة التي تقابل الأراضي المنبسطة، وفسَّرها بعضهم بالأجزاء المرتفعة من الأرض حيث تكون عالية وشامخة، فالظاهر أنّ جميع هذه التعابير تشير إلى‏ معنىً واحد.

 

وطبعاً قد يُستعمل هذا اللفظ في المعاني الكنائية أيضاً، فقد يُقال‏ (جبل) للأشخاص الصامدين والعظماء، و«جِبِلّي» للصفات الثابتة في طبيعة الإنسان والتي لا تتبدل ولا تتغير «كالجبل»، وكذلك يقال‏ (جِبِلّ) بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، للرهط والمجموعة في لغة العرب من باب التشبيه بالجبل في العظمة «1».

 

و«الرواسي»: جمع‏ «راسية» أي الجبال الثابتة الراسخة، وهي في الأصل من‏ «الرَسو» (على‏ وزن رَسْم وغلوُ) وهي مأخوذة من الثبات والرسوخ، ويُطلقُ على‏ الأواني الضخمة الراسخّة والثابتة في مكان العمل ب (الراسية) أيضاً، (كالقدور الراسية) التي وردت في قصة سليمان عليه السلام في القرآن الكريم، ويُطلقُ لفظ (رسيّ) على‏ الأعمدة الثابتة في وسط الخيمة أيضاً، ويقال لمكان رسوّ السفن ب «المرساة» حيث تثبت وتستقر السفينة في مكانها.

 

وقد يُستخدم هذا اللفظ بمعنى‏ إرساء السِّلم في المجتمع أيضاً لأنَّ السّلم أساسُ ثبات كلِّ بلدٍ.

 

البركات والأسرار العجيبة للجبال:

 

في القسم الأول من هذه الآيات يدعو الباري تعالى‏ الناسَ إلى‏ البحث والتأمل في آيات اللَّه في السماء والأرض، ثم يشير إلى‏ كيفية خلق الإبل وكذلك ارتفاع السموات حيث ارتفعت بدون عَمَدٍ مع ما لها من عظمة، وأشار إلى‏ نصب الجبال فقال: {وَإِلى‏ الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ}.

 

ولعلَّ هذا التعبير إشارة إلى‏ ثبات واستقرار الجبال في أمكنتها ومنع حدوث الزلازل التي سيشار إليها في الآيات القادمة أو أشيرَ إليه آنفًا، أو الوقوف أمام الأعاصير والعواصف، وتوفير الملاجئ الآمنة للبشر، ومستودعات حفظ المياه على‏ هيئة ينابيع وقنوات وأنهار.

 

ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة ظريفة إلى‏ مسألة طبيعة تكوين الجبال ووجودها حيث كشفَ العلم المعاصر الستار عنها، إذ يقول: إنّ الجبال تكونت نتيجة لعوامل معينة فقد يكون بسبب تعرُّج الأرض، وأحياناً بسبب البراكين، أو نتيجة الترسبات الناتجة عن الأمطار التي تغمر الأرض وتجرف بعضها معها ويبقى‏ الجزء القوي والصلب ثابتاً في مكانه.

 

وفي أعماق البحار تتكون الكثير من الجبال نتيجة الترسبات الحيوانية كالمرجان حيث يطلق عليها الجبال أو الجُزُر المرجانية.

 

ومن الممكن جمع كل هذه المعاني في عبارة {كَيْفَ نُصِبَتْ}.

 

ويقول في القسم الثاني من الآيات كبيانٍ للنعم الإلهيّة: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً

 

«الأوتاد»: جمع‏ (وَتَدْ) (على‏ وزن حَسَدْ)، وتُطلقُ على‏ المسامير الضخمة القوية جدّاً، وقد فسَّرها البعض بالمسامير التي تغور في الأرض وتُربط إليها حبالُ الخيمة «2».

 

وهنا كيف تكون الجبال بمثابة أوتاد الأرض؟ هناك تفاسير متعددة: أولُها وهو ما ثبت اليوم بأنَّ الجبال لها جذورٌ عظيمة في أعماق الأرض، وهذه الجذور متشابكة معاً وتُمسكُ بقشرة الأرض كالدرع وتحفظها في مواجهة الضغوط الناشئة عن الحرارة الداخلية، ولولاها لما كان لسطح الأرض من قرار.

 

وفضلًا عن ذلك فكما أنّ جاذبية القمر والشمس تترك تأثيراتها على‏ المحيطات، وتسبب المد والجزر، فإنَّ اليابسة لها تأثيرها أيضاً، فيمنحُ درعُ الجبالِ قشرةَ الأرض قدرةَ المقاومة أمام هذا الضغط الهائل.

 

ومن ناحية ثالثة فإنَّ الجبال تصونُ بقاعَ الأرض المختلفة من العواصف والسيول وتقف أمامها كالسور العالي، بحيث لو كان وجه الأرض كلُّه على‏ هيئة صحراء لتعسَّرت حياة الإنسان على‏ سطحها أمام هذه السيول العارمة.

 

وأهم من كل ما مضى‏ فإنّ الجبال تعتبر بمنزلة الأوتاد القوية لنظام حياة البشر لكونها مركزاً لذخائر المياه.

 

وجاء في تفسير الميزان أنّ الأوتاد جمع وتد وهو المسمار إلّا أنّه أغلظ منه‏ «3» كما في المجمع ولعل عدّ الجبال أوتاداً مبني على‏ أنّ أكثر جبال الأرض ناتجة من البراكين التي تنطلق من أعماق الأرض فتخرج مواد ارضية مذابة تستقر على‏ فم الشق متراكمة كهيئة الوتد المنصوب على الأرض تسكن به فورة البركان التي تحته فيرتفع به ما في الأرض من الاضطراب والتزلزل.

 

وفي الآيات الثالثة والرابعة والخامسة عُبِّر عن الجبال ب «الرواسي» حيث يقول:

 

{وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً}.

 

ويقول في مكان آخر: {وَأَلْقىَ فِى الأَرضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيْدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُوْن}.

 

ويشاهد هذا المعنى‏ في الآية الخامسة أيضاً.

 

ويستفادُ من مجموع هذه الآيات أنّ أحَد أهم فوائد الجبال هو منع الحركات غير الطبيعية والزلازل الأرضية.

 

و«تَميدُ»: من مادة (مَيْد) (على‏ وزن صَيْدْ) أي اهتزاز الأشياء الضخمة، وقال البعض إنّها الحركة المتزامنة مع التمايل يميناً وشمالًا، كحركة السفن الخالية بسبب أمواج البحر، ولهذا يقال‏ «مَيْدان» أثناء المسابقات أو الحروب.

 

وهناك تأثير الجبال في منع حركات قشرة الأرض أثر الضغط الداخلي، وجاذبية المد والجزر للشمس والقمر، والاضطرابات الناتجة عن السيول المستمرة...

 

ويُفهم من هذه الآيات بصورة عامة أيضاً، أنَّ لتكوين الأنهار علاقةً بوجود الجبال، وهو الصحيح، فالأنهار الكبيرة التي تجري على‏ مدى‏ السنة وتسقي الأراضي اليابسة هي من بركة المياه التي تجمعت في أعماق الجبال أو قممها على‏ هيئة جليدٍ أو ثلج، ولهذا تُعتبر الجبال العملاقة في العالم ينابيع لأنهار العالم العظيمة. وربّما يحدث لدى‏ البعض شبهة في كون وجود الجبال يكون حائلًا في عزل الأراضي عن بعضها وسبباً في غلق طرق العبور والمرور، لكن الآيات الواردة أعلاه صرحت بأنّ اللَّه سبحانه وتعالى جعل طرقاً وأودية يسلكها الناس ليهتدوا إلى بلوغ مقاصدهم ونيل مآربهم.

 

وهذه نقطة ظريفة جدّاً حيث توجد على‏ الدوام في أعماق الجبال العظيمة الشاهقة ممرات وطرقٌ يستطيع الناس من خلالها المرور والعبور، أي أنّها في ذات الوقت الذي تشكلُ سداً قوياً أمام العواصف والأعاصير، فهي لا تمنع عبور ومرور الناس، ونادراً ما تقوم هذه الجبال بعزلِ أجزاءٍ من الأرض بشكل كامل.

 

وهناك نقطة بالغة الأهمية وهي لو كان سطح الأرض مستوياً، فسوف تكون درجة الحرارة على الأرض عالية جدّاً ومحرقة وذلك بسبب حركة الأرض السريعة حول نفسها وحركة الهواء على سطح الأرض وبذلك تتعذر الحياة على سطح الأرض.

 

لكن الباري تعالى‏ الذي جَعَلَ الأرض مهداً لراحة الإنسان، أمر الجبال أن تكون مرتفعة في طبقات الجو، وتدور حول نفسها تبعاً لدوران الأرض، كي تمنع اهتزاز الجو وحصول الحرارة.

 

بناءً على‏ ذلك نلاحظ جيداً أهميّة الدور الذي يلعبُهُ وجود هذه القطع الصخرية الصمّاء في حياة الموجودات.

 

بالإضافة إلى‏ ذلك فإنَّ الجبالَ تُوجدُ مساحات مسطَّحة شاسعة بسبب التعرجات والانكسارات وتؤدّي إلى‏ مضاعفة الجزء الذي يمكن استغلاله من الأرض لعدّة مرات، وفي نفس الوقت فإنَّ أغلبها يعتبر مكاناً لنمو أشجار الغابات الكثيفة وأنواع النباتات الطبية والغذائية والمراتع.

 

ولعلَّ لهذا السبب جاء الحديث في الآية السادسة عن بركات الأرض وأقواتها بعد نصب الجبال في الأرض إذ يقول: {وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِىَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيْهَا وقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا}.

 

لأنَّ ممّا لا شك فيه أنّ الجبال نفسها وكذلك المياه التي تسيل من بطونها لها دورٌ حساسٌ للغاية في انتاج المواد الغذائية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المفردات للراغب ؛ ومجمع البحرين ؛ ولسان العرب.

(2) تفسير المراغي ، ج 30 ، ص 4.

(3) تفسير الميزان ، ج 20 ، ص 259.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد