إنّ تشريعات القرآن جاءت متوافقة مع الفطرة السّليمة ومتلائمة مع العقل الرّشيد، لا تشوهها نزعات بشرية هابطة ولا تكدرها خسائس إنسانية مبتذلة. (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) «1».
وقد ثبت في علم الكلام أنّ الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية. ومعنى ذلك أنّ ما حكم به الشرع فقد حكم به العقل، أي إنّما يحكم الشرع بما كان العقل حاكمًا بذاته لو خلّي وطبعه. قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّما جاءت الأنبياء ليثيروا دفائن العقول. أي ليبدوا ما كان مختبئًا في زوايا العقول. قال عليه السّلام: «فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ. ويثيروا لهم دفائن العقول» «2». وهكذا ذكر الإمام الكاظم موسى بن جعفر عليه السّلام: أنّ للّه حجّتين، حجّة ظاهرة وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم السّلام، وأمّا الباطنة فالعقول «3».
فالشريعة إنما جاءت بما يحكم به العقل الرشيد، ويتوافق مع الفطرة السليمة. ومن جهة أخرى، كانت القوانين الإلهية جامعة وشاملة للجوانب الثلاثة في حياة الإنسان، والمرتبطة بعضها مع البعض - حسبما مرّت الإشارة إليه - وهي: جانب الفرد ذاته، وجانب المجتمع الذي يعيش فيه، وجانب حقّ اللّه في الخلق، والذي ضمن للإنسان كرامته في الحياة، وحبّب إليه عواطفه النبيلة مع بني نوعه العائش معهم، تلك جوانب الحياة الإنسانية الراقية، التي ضمنتها القوانين الإلهية، والتي أعوزتها أو افتقدتها سائر القوانين. وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
قال تعالى بشأن شريعة القصاص: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) «4». في هذه الآية - بل في هذا التشريع العادل - نكات ودقائق ظريفة:
أولاً: إنّ في شريعة القصاص ضمانًا للحياة وإبقاء عليها، وليس تكثيرًا في القتل كما يتوهّمه القاصرون.
ثانيًا: ضمان العدالة الاجتماعية في التعادل بين أصناف الإنسان، فلا يقتل حرّ بعبد، ولا ذكر بأنثى إلّا بعد دفع التفاوت، وفي شرائط خاصّة محرّرة في الفقه.
ثالثًا - وهو عمدة النظر هنا -: جانب رعاية الأخوّة الإنسانية الكامنة وراء كلّ تشريع إلهي عرضه الإسلام. فالقانون - مهما كان - لا مرونة فيه ولا عطوفة، إلّا إذا كان ناشئًا عن واقع الإنسان النابع عن كرامته وفضيلته في هذه الحياة. والذي نجده في قوانين الشريعة التي عرضها القرآن: أنّ لأولياء الدم حقّ مطالبة القصاص، ولكن لا في جفاء (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) «5». وله العفو عن القصاص تنازلاً إلى الدية، وهذا تخفيف من اللّه ورحمة بالعباد.
والنكتة هنا أنه تعالى جعل العفو منسوبًا إلى الأخ، وقد عبّر عن وليّ الدم - وهو الثائر بأحاسيسه دفاعًا عن حقّ المقتول - بالأخ الكريم، إثارة لعواطفه الإنسانية النبيلة، فلا يثور مثار العدوّ اللدود، وإنّما هو أخ وابن أخ كريم. ثمّ لا يذهب عن القاتل، أنّ الذي عفا عنه إنّما هو أخوه، وإنّما عفا عنه لمكان أخوّته، فلا يجفّون بشأنه في أداء الدية إليه بإحسان. كما لا يجفو وليّ الدم في مطالبة الدية، وإنما يطالبه عن رفق ومداراة، لأنّه إنّما عفا عنه لأنه أخوه.
فهنا جاءت قضية الأخوّة الإنسانية فضلاً عن الأخوّة الإسلامية، هي الفاصلة في الأمر والمستدعية لانتهاء الأمر بسلام، فلا خصومة بعد ذلك ولا تجافي عن الحقوق. والقرآن في هذا المجال كأنما أخذ موضع الحياد من القضية، وإنّما أوكلها إلى جانب من حياة الإنسان الرقيقة، هي جانب أخوّته وكرامته وفضيلته، فهو الذي يحدو به إلى هذا المجال من الكرامة الإنسانية النبيلة وإن كان القرآن هو الذي أثار فيه هذه العاطفة، وساقه إلى هذا السبيل الرشيد.
فمتى قبل وليّ الدم الدية بدل القصاص ورضيه فيجب إذًا أن يطلبه بمعروف ورضا ومودّة، ويجب على القاتل أن يؤدّيه بإحسان وإجمال وإكمال، تحقيقًا لصفاء القلوب، وشفاء لجراح النفوس، وتقوية لأواصر الأخوّة بين البقيّة الأحياء.
وقال بشأن اليتامى: (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً - إلى قوله : - وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً - إلى قوله : - وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) «6».
انظر إلى دقة تعابير القرآن الواردة في هذه الآيات: إنّها توصيات مشدّدة بما كان واقعًا في الجاهلية العربية من تضييع لحقوق الضعاف بصفة عامّة، والأيتام والنساء بصفة خاصّة. هذه الرواسب التي ظلّت باقية في المجتمع المسلم حتّى جاء القرآن يذيبها ويزيلها، وينشئ في الجماعة المسلمة تصوّرات جديدة ومشاعر جديدة وعرفًا جديدًا وملامح جديدة. «وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدّلوا الخبيث بالطيّب». أعطوا اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم، ولا تعطوهم الرديء في مقابل الجيّد، كأن تأخذوا أرضهم الجيّدة وتبدّلوهم منها من أرضكم الرديئة، أو ماشيتهم أو أسهمهم أو نقودهم، أو أيّ نوع من أنواع المال فيه الجيّد والرديء.
وكذلك لا تأكلوا أموالهم بضمّها إلى أموالكم، كلّها أو بعضها، إنّ لك كان ذنبًا كبيرًا، واللّه يحذّركم من هذا الذنب الكبير. فقد كان هذا كلّه يقع إذا في البيئة التي خوطبت بهذه الآية أول مرّة. فالخطاب بشيء بأنه كان موجّهًا إلى مخاطبين فيهم من يقع منه هذه الأمور. وهي من أثر مصاحب من آثار الجاهلية، وفي كلّ جاهلية يقع مثل هذا.
قال سيد قطب: ونحن نرى أمثاله في جاهليتنا الحاضرة في المدن والقرى، وما تزال أموال اليتامى تؤكل بشتّى الطرق وشتّى الحيل، ومن أكثر الأوصياء بل الأولياء، على الرغم من كلّ الاحتياطات القانونية، ومن رقابة الهيئات الحكومية المخصّصة للإشراف على أموال القصّر، بل الغيّب أيضًا.
فهذه المسألة لا تفلح فيها التشريعات القانونية، ولا الرقابة الظاهرية كلا، لا يفلح فيها إلّا أمر واحد وهو التقوى من اللّه، فهي التي تكفل الرقابة الداخلية على الضمائر، فتصبح للتشريع قيمته وأثره. كما وقع بعد نزول هذه الآيات، إذ بلغ التحرّج من الأوصياء أن يعزلوا مال اليتيم عن أموالهم، ويعزلوا طعامهم عن طعامهم، مبالغة في التحرّج والتوقّي من الوقوع في الذنب العظيم.
إنّ هذه الأرض لا تصلح بالتشريعات والتنظيمات ما لم يكن هناك رقابة من التقوى في الضمير لتنفيذ التشريعات والتنظيمات. وهذه التقوى لا تجيش - تجاه التشريعات والتنظيمات - إلّا حين تكون صادرة من الجهة المطّلعة على السرائر، الرقيبة على الضمائر، عندئذ يحسّ الفرد - وهو يهمّ بانتهاك حرمة القانون - أنّه يخون اللّه ويعصي أمره ويصادم إرادته! وأنّ اللّه مطّلع على إرادته وعلى نيّته هذه وعلى فعله وعمله هذا، وعندئذ تتزلزل أقدامه وترتجف مفاصله وتجيش تقواه.
إنّ اللّه أعلم بعباده وأعرف بفطرتهم وأخبر بتكوينهم النفسي والعصبي - وهو خلقهم - ومن ثمّ جعل التشريع تشريعه والقانون قانونه والنظام نظامه والمنهج منهجه، ليكون له في القلوب وزنه وأثره ومخافته ومهابته، وقد علم سبحانه أنه لا يطاع أبدًا شرع لا يرتكن إلى هذه الجهة التي تخشاها وترجوها القلوب، وتعرف أنها مطّلعة على خفايا السرائر وخبايا القلوب. وأنّه مهما أطاع العبيد تشريع العبيد تحت تأثير البطش والإرهاب والرقابة الظاهرية التي لا تطّلع على الأفئدة فإنّهم متفلّتون منها كلّما غافلوا الرقابة، وكلّما واتتهم الحيلة مع شعورهم دائمًا بالقهر والكبت والتهيّؤ للانتقاض.
«وليخش الّذين لو تركوا من خلفهم ذريّة ضعافًا خافوا عليهم فليتّقوا اللّه...». وهكذا تمسّ اللمسة الأولى شغاف القلوب، قلوب الآباء المرهفة الحسّاسة تجاه ذرّيتهم الصغار. بتصوّر ذرّيتهم الضعاف مكسوري الجناح، لا راحم لهم ولا عاصم، كي يعطفهم هذا التصوّر على اليتامى الذين وكّلت إليهم أقدارهم، بعد أن فقدوا الآباء. فهم لا يدرون أن تكون ذرّيتهم غدًا موكولة إلى من بعدهم من الأحياء، كما وكّلت إليهم أقدار هؤلاء.
مع توصيتهم بتقوى اللّه فيمن ولّاهم اللّه عليهم من الصغار، لعلّ اللّه أن يهيّئ لصغارهم من يتولّى أمرهم بالتقوى والتحرّج والحنان. «إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنّما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرًا». وهذه هي اللمسة الأخرى، صورة مفرغة، صورة النار في البطون، وصورة السعير في نهاية المطاف. إنّ هذا المال نار، وإنّهم ليأكلون هذه النار، وإنّ مصيرهم لإلى النار. فهي النار تشوي البطون وتشوي الجلود، هي النار من باطن وظاهر، هي النار مجسّمة حتّى لتكاد تحسّها البطون والجلود، وحتّى لتكاد تراها العيون، وهي تشوي البطون والجلود.
ولقد فعلت هذه النصوص القرآنية - بايحاءاتها العنيفة العميقة - فعلها في نفوس المسلمين، خلّصتها من رواسب الجاهلية. هزّتها هزّة عنيفة ألقت عنها هذه الرواسب، وأشاعت فيها الخوف والتحرّج والتقوى والحذر من المساس - أيّ مساس - بأموال اليتامى. كانوا يرون فيها النار التي حدّثهم اللّه عنها في هذه النصوص القويّة العميقة الإيحاء. فعادوا يجفلون أن يمسّوها، ويبالغون في هذا الإجفال.
قال ابن عبّاس: لـمّا نزلت هذه الآية انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء، فيحبس له حتّى يأكله أو يفسد. فاشتدّ ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فأنزل اللّه: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُم)ْ. فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم «7». وكذلك رفع هذا المنهج القرآني هذه الضمائر إلى ذلك الأفق الوضيء وطهّرها من غبش الجاهلية ذلك التطهير العجيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الروم: 30.
(2) نهج البلاغة: الخطبة الأولى.
(3) الكافي: ج 1 ص 16 ح 12 من كتاب العقل.
(4) البقرة: 178 و 179.
(5) الإسراء: 33.
(6) النساء: 2 - 10.
(7) راجع مجمع البيان للطبرسي: ج 2 ص 317 عند تفسير الآية رقم 220 من سورة البقرة، وجامع البيان للطبري: ج 2 ص 217 .
الشيخ محمد جواد مغنية
محمود حيدر
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
السيد عبد الأعلى السبزواري
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي رضا بناهيان
الفيض الكاشاني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا
ماهية الميتايزيقا البَعدية وهويتها*
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (1)
انتظار المخلّص بين الحقيقة والخرافة
تلازم بين المشروبات المحلّاة صناعيًّا أو بالسّكّر وبين خطر الإصابة بمرض الكلى المزمن
أسرار الحبّ للشّومري في برّ سنابس
الميثاق الأخلاقي للأسرة، محاضرة لآل إبراهيم في مجلس الزّهراء الثّقافيّ
الشيخ عبد الكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (9)
البسملة
لماذا لا يقبل الله الأعمال إلا بالولاية؟