خطبة السيدة زينب عليها السلام في مجلس يزيد
سنتوقف عند هذا الخطاب تركيزاً والتفاتاً للتأمل فيه لنلاحظ الأمور التالية:
1/ إعجاز الخطاب ومرارة الظروف المحيطة: يرقى خطاب العقيلة زينب إلى مستوى معجز بالقياس إلى غيره بحيث يتضمن كل هذه المعاني الكبيرة بالأساليب البلاغية المتفوقة في مقطوعة لا تعتبر طويلة.
هذا بالرغم من وجود عناصر كثيرة كان من الطبيعي أن تُساهم في إضعاف بنية الخِطاب (مضموناً أو أسلوباً وشكلاً) ذلك أن خطاب العقيلة زينب عليها السلام كان ارتجالياً والخطاب الارتجالي أقرب إلى الضعف من الخطاب المحبر والمعد سلفاً. فإنها عليها السلام بمجرد أن رأت يزيد بن معاوية ينكت ثنايا أبي عبد الله الحسين متمثلاً بالأبيات المعروفة عنه قامت السيدة زينب عليها السلام وخطبت وكان يفترض أن يكون هذا الارتجال عُنصراً سلبياً يُضعف الخطاب، لكننا لم نجد لهذا أثراً.
2/ كذلك فإن مما كان يحتمل فيه التأثير السلبي للخطاب الزينبي (مضموناً أو أسلوباً) هو البيئة التي تم القاء الخطاب فيه فإن من الطبيعي أنه عندما تخطب امرأة وسط النساء ستكون أكثر انطلاقاً وقدرة بعكس ما إذا كانت في وسط رِجال ويصنفون على أنهم أعداء شامتون، لكننا أيضًا لم نلاحظ تأثيراً سلبياً مباشراً في هذا الخطاب لهذه الجهة.
3/ يضاف إليه وضع السيدة زينب عليها السلام النفسي والروحي بل والبدني، فإنها لتوها قد قطعت سفراً شاقاً استغرق أكثر من أسبوعين ويضاف إليه قرابة أسبوع قبل ذلك في الكوفة، في جهد يضعف بلا ريب امرأة تخطت الثالثة والخمسين من العمر، وقد فقدت إخوتها وأبناءها وأبناء أخيها، وكلفت رعاية هذا الجمع من النساء والأطفال، إن كل ذلك كان من الممكن أن يؤثر تأثيراً سلبياً للغاية ينكسر فيه الخطاب ويتعثر، لكننا مع كل ما سبق نجد خطاباً في أشد درجات التماسك والقوة والاقتدار والإحكام.
4 / سوف نلاحظ أن الخطبة وهي كما قلنا لا تعد من الخطب الطويلة فهي بحدود الثلاثين سطراً، إلا أنها احتوت على عدد كبير من المفاهيم الدينية والمعرفية والتاريخية، واستشراف المستقبل، وتحليل الحدث الحسيني والكربلائي، ولا تزال كلماتها إلى يومنا هذا وكأنها قيلت للحظتها.
5/ نلاحظ أن العقيلة زينب عليها السلام قد انتخبت آية قرآنية خاصة في مقدمة خُطبتها، ولم يكن ذلك على سبيل التبرك بآي القرآن كما يفعل بعض المتكلمين، وإنما اختارت بدقة آية تنطبق على المقام، وبيان ذلك أنها: بعد البسملة وحمد الله عزّ وجلّ والصلاة على محمد وآل محمد ذكرت الآية المباركة بقولها: صدق الله حيث يقول (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ).
وهذا أفضل توصيف لحالة يزيد بن معاوية، فإن العاصي الفاسق يتدرج في المعصية من درجة فاسق فاجر، مع بقائه على أصوله الاعتقادية، إلى أن يصل إلى درجة المكذب بآيات الله، وغير المعتقد بها، والذي لا (يؤمن) بيوم المعاد، فإذا كان في البداية يشرب الخمر وهو فاسق كما عرف عن يزيد، إلا أنه سينتهي فيما بعد إلى التكذيب بمواعيد الله، وآياته فيقول:
ما قال ربُك ويلٌ للألى شربوا، بل قال ربك ويلٌ للمصلينا
وإذا كان يُمارس الزنا والمنكرات وهي كُلها من فساد الجوارح، إلا أنه وصل إلى درجة التمثل بكلام أحد كفار قريش في قوله:
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحيٌ نزل
ويعد هذا التشخيص في الحقيقة لشخصية يزيد في غاية الدقة.
6/ بعد استشهادها بالآية قالت عليها السلام: (أَظَنَنْتَ يَا يَزِيدُ حِيثُ أَخَذْتَ عَلَيْنَا أَقْطَارَ الْأَرْضِ، وآفَاقَ السَّمَاءِ، فَأَصْبَحْنَا، نُسَاقُ كَما تُساقْ الأُسارى بِأنَّ لكَ عَليْه كَرَامَةً وأَنّا لنا عَليهِ هَوَاناً)، وفي هذا نسف كامل لما سبق أن قاله يزيد أمام الحاضرين في زعمه بأن الانتصار الظاهري يدل على الفضيلة الإلهية، في حواره أمام زين العابدين والحاضرين، عندما قال: لقد حاكم الله أبي وأباه فحكم لأبي على أبيه وكذلك زعم بالنسبة للحسين، في مقابل ذلك تقول العقيلة: إن مقتلة شخص أو حياته وأسر عياله أو سبيهم لا يعني أن الله سبحانه راض بذلك وأنه مع القاتل ضد المقتول! كلا.
إنما الصحيح هو ما ستستدل به من القرآن من قول الله تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) إنما هي قضية استدراج وإملاء.
7/ وثائق تاريخية زينبية في وقت مبكر: من ذكاء وتركيز العقيلة زينب هي أنها سجلت في ضمن خطابها مجموعة من الوثائق التاريخية التي ستبقى تقاوم التزوير والتزييف، وهي "سَوقُك بناتِ رسول الله سبايا قد هُتِكت سُتورُهنّ، وأُبدِيت وجوهُهنّ؟! تَحْدُو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهلُ المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوهَهنّ القريب والبعيد والدنيّ والشريف! ليس معهنّ مِن رجالهنّ وَليّ، ولا مِن حُماتِهنّ حَمِيّ" وأيضا في قولها:" مُنحنياً على ثنايا أبي عبد الله وسيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمِخْصَرتك".. وهذا من الأهمية بمكان فإننا قد وجدنا محاولات يائسة من قبل أتباع الخط الأموي لإنكار الحوادث كُلاً أو بعضاً، حتى لقد أنكر بعضهم أن يكون الأسارى قد حملوا وأخذا إلى دمشق، وأنكر بعضهم أن يكون يزيد قد قرع ثنايا الحسين بل أن يكون رأس الحسين قد أخذ إلى الشام!!
إن تسجيل العقيلة هذه الحقائق كوثائق لا تقبل الترديد، والتألم والتفجع بشأنها يرد بقوة على تلك المحاولات.
8/ التحقير والاذلال والتهديد: فالعجيب أن العقيلة زينب في الوقت الذي كان يفترض فيه أن تكون في أدنى حالات الضعف والهوان، وفي المقابل أن يكون عدوها يزيد في أوج انتصاره وقوته وجبروته، إلا أنها حقرته بما لم يسبق أن فعل أحد بأحد ومسحت به التراب والهوان، فقد رأت أنه دون مستوى من أن تتخاطب معه وأنها أسمى من أن تتنزل لذلك، لكنها أحكام الزمان والدواهي العرجاء، ومع ذلك فإنها تستصغر قدره! وتستعظم تقريعه! وتستكثر توبيخه!
ثم لا يتصور أن الأمر هذه نهايته! إن لهذا ما بعده! ما تصوره غنيمة سيرجع عليه غُرمًا ونقمة.
ولا ينبغي أن يعمى عن المستقبل، فإنما هي أيام قلائل ليتبدد هذا الجمع ولتفل هذه القوة، وفي المقابل فإن الباقي هو منهج الله وأوليائه، وبقاؤنا هو ببقاء ذكر الله ووحي الأنبياء، ثم النتيجة في القيامة يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين.
السيد عادل العلوي
محمود حيدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد صنقور
الشيخ فوزي آل سيف
السيد عباس نور الدين
السيد عبد الحسين دستغيب
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
أحمد الرّويعي
حبيب المعاتيق
حسين آل سهوان
أحمد الرويعي
أسمهان آل تراب
حسين حسن آل جامع
أحمد الماجد
فريد عبد الله النمر
علي النمر
زهراء الشوكان
الشيخ علي الجشي
سر من أسرار زینب الحوراء عليها السلام
السُؤال في عين كونه جوابًا (4)
سورة الزلزلة
حرق الخيام قبل مقتل الحسين (ع) وبعده
الأسارى في دمشق، وخطبة العقيلة زينب (ع) (2)
المنبر الحسيني بين العَبرة والعِبرة
(أين هو؟) أولى قصص الأطفال للكاتبة سكينة آل قويسم
(شهيّة الوجع المفتوحة) باكورة إصدارات الكاتبة بدريّة آل حمدان
الأخت.. فكرة أمٍّ ثانية
الإمام السجّاد (ع) بعد عاشوراء