لم يزل القرآن - منذ الصدر الأوّل - في طور التجويد والتحسين، لا سيّما في ناحية كتابته وتجميل خطّه من جميل إلى أجمل. وقد أسهم الخطّاطون الكبار في تجويد خطّ المصاحف وتحسين كتابتها.
وأوّل من تنوّق في كتابة المصاحف وتجويد خطّها، هو خالد بن أبي الهياج - صاحب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) - (ت ح 100 ه) وكان مشهورًا بجمال خطّه وإناقة ذوقه. ويقال إنّ سعدًا - مولى الوليد وحاجبه - اختاره لكتابة المصاحف والشعر والأخبار للوليد بن عبد الملك (86 - 96) فكان هو الذي خطّ قبلة المسجد النبويّ بالمدينة بالذهب من سورة الشمس إلى آخر القرآن. وكان قد جدّد بناءه وأوسعه عمر بن عبد العزيز واليًا على المدينة من قبل الوليد وبأمر منه. وفرغ من بنائه سنة 90 «1».
وطلب إليه عمر بن عبد العزيز أن يكتب له مصحفًا على هذا المثال، فكتب له مصحفًا تنوّق فيه، فأقبل عمر يقلّبه ويستحسنه، ولكنه استكثر من ثمنه فردّه عليه. والظاهر أنّ ذلك كان أيام خلافته (99 - 101) التي كان قد تزهّد فيها. قال محمد بن إسحاق - ابن النديم -: رأيت مصحفًا بخطّ خالد بن أبي الهياج، صاحب علي (عليه السلام) وكان في مجموعة خطوط أثريّة عند محمد بن الحسين المعروف بابن أبي بعرة، ثم صار إلى أبي عبد اللّه بن حاني رحمه اللّه «2».
وقد ظلّ الخطّاطون يكتبون المصاحف بالخطّ الكوفيّ، حتى أواخر القرن الثالث الهجري، ثم حلّ محله خطّ النسخ الجميل في أوائل القرن الرابع، على يد الخطاط الشهير محمد بن علي بن الحسين بن مقلة (272 - 328).
قيل: إنّه أوّل من كتب خطّ الثلث والنسخ، وأوّل من هندس الحروف - إذ كان بارعًا في علم الهندسة - ووضع قواعدها وأصول رسمها. واتفق الباحثون أنّ الفضل الأكبر في تطوير وتحسين الخطّ العربيّ الإسلاميّ وتنويعه يرجع إلى هذا الخطاط الماهر، الذي لم تنجب الأمّة الإسلاميّة لحد الآن خطاطًا بارعًا مثله.
وقد نسب عدد من المخطوطات الأثريّة إليه، كالمصحف الموجود في متحف هراة بأفغانستان. ويقال: إنّه كتب القرآن مرّتين «3». وقد بلغ خطّ النسخ العربيّ ذروته في الجودة والحسن في القرن السابع على يد الخطاط المستعصمي ياقوت بن عبد اللّه الموصليّ (ت 689) كتب سبع مصاحف بخطّه الرائع الذي كان يجيده إجادة تامّة، ويكتب بأنواعه المختلفة حتى صار مثلًا يقتدى به «4».
وهكذا صارت المصاحف تكتب على أسلوب خطّ ياقوت حتى القرن الحادي عشر، ومنذ مفتتح القرن الثاني عشر اهتمّ الأتراك العثمانيّون عنايتهم بالخطّ العربيّ الإسلاميّ لا سيّما بعد فتح سلطان سليم مصر وزوال حكم المماليك عنها، فجعل الخطّ العربيّ يتطوّر على أيد الخطّاطين الفرس الذين استخدمهم العثمانيّون في إمبراطوريّتهم.
وقد نقل السلطان سليم جميع الخطّاطين والرسّامين والفنّانين إلى عاصمته، وأضافوا للخطّ العربيّ أنواعًا جديدة، لا زالت تستعمل في الكتابات الدارجة، كالخطّ الرقعي والخطّ الديواني والخطّ الطغرائي والخطّ الإسلامبولي وغيرها.
ومن الخطّاطين العثمانيّين الذين ذاع صيتهم: الحافظ عثمان (ت 1110). والسيّد عبد اللّه أفندي (ت 1144). والأستاذ راسم (ت 1169).
وأبو بكر ممتاز بك مصطفى أفندي الذي اخترع خطّ الرقعة، وهو أسهل الخطوط العربيّة وأبسطها استعمالًا، وقد وضع قواعده وكتب به لأوّل مرّة، في عهد السلطان عبد المجيد خان سنة 1280 ه «5».
أمّا طباعة المصحف الشريف فقد مرّت - ككتابته خطًّا - بأطوار التجويد والتحسين. فلأوّل مرّه ظهر القرآن مطبوعًا في البندقيّة في حدود سنة 950 ه - 1530 م . لكن السلطات الكنسيّة أصدرت أمرًا بإعدامه حال ظهوره.
ثم قام «هنكلمان» بطبع القرآن في مدينة «هانبورغ» - ألمانيا - سنة 1104 ه - 1694 م ثم تلاه «مراكي» بطبعه في «بادو» سنة 1108 ه - 1698 م.
وقام مولاي عثمان بطبع القرآن طبعة إسلاميّة خالصة، في مدينة «سانت بترسبورغ» - روسيا - سنة 1200 ه - 1787 م. وظهر مثلها في «قازان».
وقام «فلوجل» بطبعته الخاصّة للقرآن في مدينة «لينزبورغ» سنة 1252 ه - 1834 م. فتلقّاها الأوروبيون بحماسة منقطعة النظير، بسبب إملائها السهل. ولكنّها - كسائر الطبعات الأوروبيّة - لم تنجح في العالم الإسلامي.
وأوّل دولة إسلامية قامت بطبع القرآن، فكان نصيبها النجاح، هي إيران «6». طبعت طبعتين حجريّتين جميلتين ومنقّحتين في حجم كبير، مع ترجمة موضوعة تحت كلّ سطر من القرآن، ومفهرستين بعدّة فهارس. إحداهما كانت في طهران سنة 1243 ه - 1828 م والأخرى في تبريز 1248 ه - 1833 م.
وظهرت في الهند - في هذا العهد. أيضًا عدّة طبعات. ثمّ عنيت الأستانة - تركيا العثمانيّة - ابتداءً من سنة 1294 ه - 1877 م بطبع القرآن طبعات أنيقة ومنقّحة جدًّا.
وقامت روسيا الملكيّة عام 1323 ه - 1905 م بطبع قرآن كتب بخطّ كوفيّ قديم، في حجم كبير، يظنّ أنّه أحد المصاحف العثمانيّة الأولى، خال عن النقط والتشكيل، سقطت من أوّله ورقات، وناقص من آخره أيضًا. يبتدى من قوله تعالى: «ومن الناس من يقول آمنا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين» «7» وينتهي إلى قوله: «وإنّه في أم الكتاب لدينا لعليّ حكيم» «8» عثروا عليه في سمرقند، فامتلكته المكتبة الملكية في بترسبورغ. ثم تولّى معهد الآثار في طشقند طبعه طبعة فتوعرافيّة على نفس الرسم والحجم في خمسين نسخة، وأهداها إلى أهمّ جامعات البلاد الإسلاميّة. ومنها نسخة في مكتبة جامعة طهران، مسجّلة برقم المطبوعات: DSS / 14403.
وأخيرًا قامت مصر بطبعة ممتازة للمصحف الشريف سنة 1342 ه - 1923 م، تحت إشراف مشيخة الأزهر. وبإقرار لجنة عيّنتها وزارة الأوقاف.
وقد تلقّى العالم الإسلامي هذه الطبعة بالقبول، وجرت عليها سائر الطبعات. كما ظهرت في العراق سنة 1370 ه - 1950 م طبعة بارزة أنيقة للقرن.
وهكذا اهتمت الأمم الإسلامية في مختلف الأقطار بطبع هذا الكتاب ونشره على أحسن أسلوب وأجمل طراز. ولا تزال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ اليعقوبي: ج 3 ص 30 و 36.
(2) الفهرست: الفنّ الأوّل من المقالة الأولى ص 9. والفنّ الأوّل من المقالة الثانية ص 46.
(3) الخطّ العربيّ الإسلاميّ: ص 155. والخطّاط البغدادي: ص 16.
(4) المصدر: ص 171 ومصوّر الخط العربي ناجي المصرف: ص 92.
(5) الخط العربي الإسلامي: ص 123.
(6) الدكتور صبحي صالح، مباحث في علوم القرآن: ص 99. وينقل عن المستشرق «بلاشير» معلومات هامة بهذا الصدد، اعتمدناها في هذا العرض.
(7) البقرة: 8.
(8) الزخرف: 4.
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان