علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

هل يمكن إثبات المعجزة علميًّا؟ (2)

4ـ كيف تدلّ المعجزة على صحّة ادّعاء النبوّة؟

إن صفحات التاريخ مليئة بذكر من ادّعوا النبوّة خداعاً وكذباً واستثماراً للناس مستغلِّين سذاجة الأغلبية الساحقة من جانب، وانجذابهم الفطري إلى قضايا التوحيد والإيمان من جانب آخر. فكيف وبماذا يُميَّز النبيّ الصادق عن مدّعي النبوة؟؟

إن المعجزة هي إحدى الطرق التي تدل على صحة ادعاء النبوة. وإِنما تدلُّ المعجزة على صدق ادّعاء النبوّة وارتباط النبيّ بالمقام الربوبي لأن اللّه الحكيم لا يمكن أن يزوّد الكاذب في دعوى النبوة بالمعجزة لأن في تزويد الكاذب تغريراً للناس الذين يعتبرون العمل الخارق دليلاً على ارتباط الآتي بها بالمقام الربوبيّ.

وإلى هذا أشار الإمامُ جعفر الصادق (عليه‌ السلام) بقوله في جواب من سأله عن علة إعطاء اللّه المعجزة لأنبيائه ورسله : لِيَكُونَ دَليلاً عَلى صِدق من أتى به والمعجزة علامةٌ للّه لا يعطيها إلا أنبياءه وَرسلَه وحجَجَه ليعرفَ به صدق الصادق مِنْ كذب الكاذِب .

 

5 ـ بماذا نميز المعاجز عن غيرها من الخوارق؟

لا شَكَّ في أنَّ السَحَرة والمرتاضين يقومون بأفعال خارقة للعادة مثيرة للعجب والدهشة حتّى أن البسطاء ربما يذهب بهم الاندهاش إلى حدّ الاعتقاد بأن القائمين بهذه الخوارق مزوَّدون بقوى غامضة غيبية لا يتوصلُ إليها البشر. فكيف يمكن إذن أن نُمَيّز بَينَ المعاجز وتلك الخوارق والعجائب؟

إن التمييز بين هذه وتلك يمكن أن يتم إذا لاحظنا العلائم الفارقة بين المعجزة وغير المعجزة من الأعمال الخارقة للعادة كأعمال السحرة والمرتاضين (أصحاب اليوجا) ونظائرهم.

وهذه الفوارق هي عبارة عن الأمور التالية :

1 ـ إن القوة الغامضة الحاصلة لدى المرتاضين والسحرة ناشئة بصورة مباشرة من التعلم والتحصيل عند أساتذة تلك العلوم وذلك طيلة سنين عديدة من الزمان. بينما لا يرتبط الإعجاز بالتعلّم والتلمّذ أبداً والتاريخ خير شاهد على هذا الكلام.

2 ـ إن أَفعال السّحرة والمرتاضين العجيبة قابلة للمعارضة والمقابلة بأمثالها وربما بما هو أقوى منها على عكس الإعجاز فالمعجزات غير قابلة لأن تعارض وتقابل بمثلها أبداً.

3 ـ المرتاضون والسحرة لا يَتحدُّون أحداً بأفعالهم ولا يطلبُون معارضة أحد لهم وإلا لافتضَحُوا وكبتوا. بينما يتحدى الأنبياء والرسل بمعاجزهم جميع الناس ويدعونهم لمعارضتهم والإتيان بمثل معاجزهم لو قدروا واستطاعوا.

فهذا هو القرآن الكريم ينادي بأعلى صوته على مر العصور: (قُل لَئنْ اجْتَمَعت الإنسُ والجنّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمثْلِ هذا الْقُرآنِ لا يأتُونَ بِمثْلِه وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهيْراً) .وذلك لأن أفعال السحرة الخارقة مهما كانت فإنها تستند إلى الطاقة البشرية المحدودة ولا تتجاوزها بينما يعتمد الأنبياء والرسل العنصر الغيبي والإرادة الإلهية.

4 ـ إن أفعال السحرة والمرتاضين الخارقة للعادة أمور محدودة ومقتصرة على ما تعلَّموها وتمرنوا عليها بينما لا تكون معاجز الأنبياء والرسل مقتصرة على أمور خاصة فهم لا يعجزون عن الإتيان بكل ما يطلبه الناس منهم طبعاً حسب شرائط خاصة مذكورة في محلها في أبحاث الإعجاز .فتلك معاجز موسى المتعددة الابتدائية والمقترحة ومعاجز المسيح (عليه‌ السلام) المتنوعة خير مثال على هذا الأمر.

5 ـ إن اصحاب المعاجز يقصدون من معاجزهم دائماً دعوة الناس إلى أهداف إنسانية عالية وغايات إلهية سامية وبالتالي هداية المجتمع البشري إلى المبدأ والمعاد والأخلاق الفاضلة فيما لا يهدف المرتاضون والسحرة إلا إلى تحقيق مآرب دنيوية حقيرة ونيل مكاسب مادية رخيصة. هذا مضافاً إلى أن الأنبياء والرسل أنفسهم يختلفون عن السحرة والمرتاضين في نفسيّتهم العالية وأخلاقهم الفاضلة وتاريخهم المشرق وصفاتهم النبيلة على العكس من السحرة والمرتاضين.

 

هذه هي أَهمُّ العلامات الفارقة بين المعاجز الّتي تدل على نبوة الأنبياء والخوارق الّتي يقوم بها المرتاضون والسحرة.

وبعد أن تبيَّن كل هذا اتضح أنَّ الخوارق الإلهية الّتي هي من مقولة المعاجز أيضاً تختلف عن الأمور العادية في أن عللها لا تنحصر في العلل المادية غير المعروفة فضلاً عن الأمور المادية المعروفة بل ربما تكون مستندة إلى العلل المجرّدة فليس من الصحيح أن نسعى لتفسير الخوارق الإلهية مثل: قصة الفيل الّتي أهلك اللّه تعالى فيها جيش أبرهة العظيم بأحجار صغيرة من سجيل رمتها طيور الأبابيل بالعلل المادية المعروفة كما فعل من أشرنا إلى أسمائهم في مطلع هذا البحث .

ولهذا عَدلَ سيد قطب عن رأية الّذي كان قد أبداه في ما سبق في أمثال هذه الأمور إذ قال :إن الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره أن ينفض الإنسان من ذهنه كل تصوّر سابق وأن يواجه القرآن بغير مقرَّرات تصورية أو عقلية أو شعورية سابقة وأن يبني مقرّراته كلها حسبما يصور القرآن والحديث حقائق هذا الوجود ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن ولا ينفي شيئاً يثبته القرآن ولا يُؤَوله ولا يثبت شيئاً ينفيه القرآن أو يبطله وما عدا المثبت والمنفي في القرآن فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته.

نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن ... وهم مع ذلك يؤوّلون نصوصه هذه لتوائم مقررات سابقة في عقولهم وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود .فأما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن ويعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل إلى شيء منها فهم مضحكون حقاً! فالعلمُ لا يعلم أسرار الموجودات الظاهرة بين يديه والّتي يستخدمها في تجاربه وهذا لا ينفي وجودها طبعاً! فضلاً عن العلماء الحقيقيين أخذت جماعة كبيرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم ـ عن طريق العلم ذاته ـ أمام مجاهيل فيما بين أيديهم ممّا كانوا يحسبون أنهم فرغوا من الإحاطة بعلمه فتواضعوا تواضعاً علمياً نبيلاً ليس فيه سمة الادعاء ولا طابع التطاول على المجهول كما يتطاول مدّعو العلم ومدّعو التفكير العلمي ممن يُنكرون حقائق الديانات وحقائق المجهول .

ثم يقول في موضع آخر من تفسيره ناقداً لموقف الأستاذ عبده من قصة الفيل الّتي هي إحدى الخوارق حيث حفظ اللّه تعالى بيته المعظم على نحو خارق للعادة :ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى وأن الطير تكون هي: الذباب والبعوض تحمل الميكروبات فالطير هو كل ما يطير.

ثم ينقل كلام الأستاذ عبده الّذي ذكرناه بنصه مع قوله: هذا ما يصحّ الاعتماد عليه في تفسير السورة وما عدا ذلك فهو ممّا لا يصحّ قبوله إلاّ بتأويل إن صحت روايته وممّا تعظم به القدرة أن يُؤخذَ من استعز بالفيل ـ وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسماً ـ ويُهْلكَ بحيوان صغير لا يظهر للنظر ولا يدرك بالبصر حيث ساقه القدرُ لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر.

ثم يقول: ونحن لا نرى أن هذه الصورة الّتي افترضها الأستاذ الإمام ـ صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم ـ أدلَّ على قدرة ولا أولى بتفسير الحادث فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع ومن حيث الدلالة على قدرة اللّه وتدبيره ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس المعهودة المكشوفة لعلمهم هي الّتي جرت فأهلكت قوماً أراد اللّه إهلاكهم أو أن تكون سنة اللّه قد جَرت بغير المألوف للبشر وغير المعهود المكشوف لعلمهم فحقّقت قدره ذاك.

ثم يقول: لقد كان اللّه سبحانه يريد بهذا البيت أمراً كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمناً وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة في أرض حرة طليقة لا يهيمن عليها أحد من خارجها ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال ليضربها مثلاً لرعاية اللّه لحرماته وغيرته عليها.

فمما يتناسق مع جوّ هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود بكل مقوماته وبكل أجزائه ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذّ.

وبخاصة إن المألوف في الجدري والحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضواً عضواً وأنملة أنملة ولا يشق الصدر عن القلب!! ثم إن سيد قطب يشير إلى علل تفسير هذه الحادثة الخارقة للعادة بالتفسير المادي العادي الطبيعي والمدرسة العقلية الّتي كان الأستاذ عبده على رأسها وضغط الفتنة بالعلم الّتي تركت آثارها في تلك المدرسة ونحن نكتفي بهذا القدر بالمناسبة وإشعاراً بما يمكن أن يجنيه مثل هذا الاتجاه على مقولات الدين ومفاهيمه ومقرراته عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية.

هذا ويجدر بنا أن ننقل هنا ما قاله صاحب تفسير مجمع البيان في هذا الصدد في شأن حادثة الفيل استكمالاً لهذا البحث وتأكيداً لمعجزة هذا الحدث.

قال صاحب المجمع: وكان هذا من أعظم المعجزات القاهرات والآيات الباهرات في ذلك الزمان أظهره اللّه تعالى ليدل على وجوب معرفته وفيه إرهاص لنبوة نبينا (صـلى الله علـيه وآله) لأنه ولد في ذلك العام وفيه حجة لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة والملحدين المنكرين للآيات الخارقة للعادات إانه لا يمكن نسبة شيء ممّا ذكره اللّه تعالى من أمر أصحاب الفيل إلى طبع وغيره كما نسبوا الصيحة والريح العقيم والخسف وغيرهما ممّا أهلك اللّه تعالى به الأمم الخالية إذ لا يمكنهم أن يروا في أسرار الطبيعة إرسال جماعات من الطير معها أحجار معدّة مهيَّأة لهلاك أقوام معينين قاصدات إيّاهم دون من سواهم فترميهم بها حتّى تهلِكهم وتدّمر عليهم لا يتعدّى ذلك إلى غيرهم ولا يشك من له مسكة عن عقل ولب إن هذا لا يكون إلا من فعل اللّه تعالى مسبب الأسباب ومذلِّل الصعاب وليس لأحد أن ينكر هذا لأَن نبينا (صـلى الله علـيه وآله) لما قرأ هذه السورة على أهل مكة لم ينكروا ذلك بل أقروا به وصدّقوه مع شدة حرصهم على تكذيبه واعتنائهم بالردّ عليه وكانوا قريبي عهد بأصحاب الفيل فلو لم يكن لذلك عندهم حقيقة وأصل لأنكروه وجحدوه وأنهم قد أرّخوا بذلك كما أرّخوا ببناء الكعبة وموت قصيّ بن كعب وغير ذلك.

وقد أكثر الشعراء ذكر الفيل ونظّموه ونقلته الرواة عنهم فمِن ذلك ما قاله (أميّة) بن أبي الصلت :

إن آيات ربِّنا بَيِّنات

ما يُماريْ فيهِنّ إلا الكَفُورُ

حبَس الفِيْلَ بالمُغمَّس حَتى

ظَلّ يحبو كأنه مَعْقُورُ

وقال عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم :

أنتَ الجليل ربَنا لم تُدْنِس

أنت حبَسْت الفيل بالمغمَّس

مِنْ بعد ما همَّ بشيء مَبْلسِ

حبَستَه في هيئة المكركس

وقال ابن قيس الرقيات في قصيدة :

وَاسْتَهلَّتْ عَليْهِمُ الطَيْر با

لجندلِ حَتى كأَنَّه مَرْجُومُ

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد