علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمود الهاشمي الشاهرودي
عن الكاتب :
مرجع شيعي كبير،عضو مجلس الخبراء ورئيس المجلس القضائي سابقاً

العقلانية والقيمة العلمية

 

١ـ الجمع بين الذوق الفنِّي والإحساس العقلائي‏

 

الذوق حاسة ذاتيَّة في الإنسان يدرك على أساسها جمال الأمور وتناسقها. والذهنيَّة العقلائيَّة هي الأخرى يدرك بها الإنسان الطباع والأوضاع والمرتكزات التي ينشأ عليها العرف والعقلاء، ويبني على أساس منها الكثير من النظريَّات والأفكار في مجال البحوث المختلفة كالدراسات التشريعيَّة والقانونيَّة والأدبيَّة. وهي في الأعمِّ الأغلب مجالات للبحث لا يمكن إخضاعها ـ للبراهين المنطقيَّة أو الرياضيَّة أو التجريبيَّة، وإنَّما تحتاج إلى حاسة الذوق الفني والذهنيَّة العقلائيَّة والحسّ العرفي الأدبي. ونحن نجد في مدرسة السَّيِّد الشَّهيد الصَّدر(قده) التَّمييز الكامل بين هذه المجالات وغيرها في العلوم والمعارف، ونجد أنَّه كان يتناول المسائل في المجال الأوّل بالاعتماد على الذوق الموضوعي والإدراك العقلائي المستقيم حتَّى استطاع أن يضع المنهج المناسب في هذه المجالات وأن يؤسِّس طرائق الاستدلال الذوقي والعقلائي، ويؤصِّل قواعدها ومرتكزاتها، خصوصاً في البحوث الفقهيَّة التي تعتمد الاستظهارات العرفية أو المرتكزات العقلائيَّة، فأبدع نهجاً فقهيَّاً موضوعيَّاً في مجال الاستظهار الفقهي خرجت على أساسه الاستظهارات من مجرد مدعيات ومصادرات ذاتية إلى مدعيات ونظريات يمكن تحصيل الإقناع والاقتناع فيها على أسس موضوعيَّة..

 

وتحسن الإشارة إلى أنَّه قلّما تجتمع النزعة البرهانيَّة المنطقيَّة في الاستدلال، مع الذوق الفنِّي والحسّ العقلائي والذهنيَّة العرفيَّة في شخصيَّة علميَّة واحدة. فإنَّنا نجد أنَّ العلماء الذين مارسوا المناهج العقليَّة والبرهانيَّة من المعرفة وتفاعلوا مع تلك المناهج وطرائق البحث قد لا يحسّون بدقائق النكات العرفيَّة والذوقيَّة والعقلائيَّة، ولا يبنون معارفهم وأنظارهم إلاَّ على أساس تلك المصطلحات البرهانيَّة، التي اعتادوا عليها في ذلك البحث العقلي. وكذلك العكس، فالباحثون في علوم الأدب

والقانون وما شاكل نجدهم لا يجيدون صناعة البرهنة والاستدلال المنطقي، ولكن نجد أنَّ مدرسة سيِّدنا الشَّهيد قد امتازت بالجمع بين هاتين الخصيصتين اللتين قلّما تجتمعان معاً، وتمكَّنت من التوفيق الدقيق في ما بينهما، واستخدام كلّ منهما في مجاله المناسب والسليم من دون تخبُّط أو إقحام ما ليس منسجم.

 

٢- القيمة العلميَّة والحضاريَّة لمدرسة السَّيِّد الشَّهيد

 

لقد كان سيِّدنا الشَّهيد الصَّدر مدركاً لتحديات الحضارة المعاصرة، وكان من مميِّزات مدرسته أنَّها استطاعت التصدِّي لنسف أُسس الحضارة الماديَّة لإنسان العصر الحديث، بمنهج علمي نقدي، يرتكز على الموضوعيَّة في عرضه لهذه الأسس الماديَّة، ثمَّ توجيه النقد الموضوعي لها، وكشف تهافتها وعدم قدرتها على علاج المشاكل التي يتخبَّط فيها الإنسان المعاصر، سواء في الغرب أم في العالم الإسلامي، وقد جاء انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكّك دوله وأنظمته السياسيَّة، ليؤكِّد صحَّة النقد الذي وجَّهه السَّيِّد الشَّهيد للأسس الفلسفيَّة التي يرتكز عليها هذا المذهب. أمَّا بالنسبة للمعسكر الرأسمالي فإنَّ المآسي والآلام التي أسفر عنها تطبيق فلسفته الماديَّة وترويجها تزداد اتساعاً وانتشاراً، خصوصاً داخل الدول الفقيرة والتابعة لهذا المعسكر. في المقابل وبالمنهج العلمي والمنطقي نفسه استطاع أن يعيد الثقة بالإسلام وشريعته، عندما اكتشف نظرياته في عدد من الحقول المعرفيَّة المهمة، مثل الاقتصاد والسياسة، ويُبرز تفوّقها وانسجامها مع الواقع والمجتمع الإسلامي، وقدرتها على انتشال المجتمعات الإسلاميَّة من المشاكل التي تعاني منها، لقد استطاع السَّيِّد الشَّهيد أن يقدِّم الحضارة الإسلاميَّة شامخة على أنقاض تلك الحضارة المنسوفة، وعلى أسس علميَّة قويمة. وضمن بناء شامل ومتماسك ومتين استطاع سيِّدنا الشَّهيد من خلاله أن ينزل إلى معترك الصراع الفكري الحضاري كأقوى وأمكن من خاض غمار هذا المعترك ووفق إلى تفنيد مزاعم ومتبنيَّات الحضارة الماديَّة المعاصرة جميعها، واستطاع أن يخرج من ذلك ظافراً مظفراً وبانياً لصرح المدرسة العتيدة والمستمدة من منابع الإسلام الأصيلة والمتصلة بوحي السماء ولطف اللَّه بالإنسان.

هذه نبذة مختصرة عن معالم مدرسة هذا المرجع والفيلسوف والعارف الربّاني والمجاهد الشَّهيد التي أسَّسها وأشادها لبنة لبنة بفكره، ونمَّاها مرحلة مرحلة بجهوده العلميَّة المتواصلة، وهي تعبِّر بمجموعها عن البعد العلمي، الذي هو أحد أبعاد هذه الشخصيَّة العظيمة الفريدة في تاريخنا المعاصر.

 

فصلية المنهاج / العدد ١٧

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد