المسألة:
ورد في الدعاء المأثور: "يَا مَنْ هُوَ بِالْمَنْظَرِ الأَعْلَى"(1) فما هو المراد من هذه الفقرة؟
الجواب:
هذه الفقرة من الدعاء سِيقت للكناية عن أنَّه تعالى محيطٌ بكلِّ شيء، وأنَّه تعالى يعلمُ من أحوال خلقِه بكلِّ شيء، وأنَّه لا يخفى عليه من شؤونهم شيء.
فكلمة المنظر اسمُ مكان يُستعمل ويُراد منه الموضع الذي يُنظر منه، وعادةً ما يُطلق على الموضع المرتفع الذي يتهيأ لمَن يقفُ عليه الإشراف والإحاطة بنظره لما هو دون ذلك الموضع، وكلَّما كان الموضعُ أرفع كانت الرؤيةُ أوسع وأشمل، ولهذا يبني السلاطين في أعلى موضع من قلاعهم شرفةً للمراقبة، لأنَّ من يجلس في تلك الشرفة يتمكَّن من رؤية القلعة من تمام جوانبها، فمَن يجلس للمراقبة في تلك الشرفة تكون رؤيتُه محيطةً ومستوعِبةً لتمام جوانب القلعة وهو ما يُمكِّنه من رؤية كلِّ أحدٍ يقصد القلعة من أيِّ جانبٍ من جوانبها.
فقوله (ع): "يَا مَنْ هُوَ بِالْمَنْظَرِ الأَعْلَى" أُريد منه الكناية عن أنَّه تعالى مشرفٌ على خلقِه يعلم بكلِّ شيء من أحوالهم، فكانَّه جلَّ وعلا في أعلى موضعٍ، وعمومُ خلقه في موضعٍ دون الموضعِ الذي هو عليه، لذلك فعلمه محيطٌ بهم، ورؤيتُه مستوعِبةٌ لهم، فهو تعالى وإنْ كان متعالٍ عن المكان إلا أنَّه أريد من هذا التعبير الكناية، فجيء باللازم وأُريد منه الملزوم، فلازم الكون في الموضع الأعلى هو الرؤية والإحاطة بما دونه، فالمقصود من الفقرة المذكورة هو الملزوم وهو الإحاطة والعلم الشامل، وليس المقصود منها اللازم وهو الكون في المكان الأعلى لأنَّ اللهَ جلَّ وعلا منزهٌ عن المكان.
والذي يؤيد أنَّ المراد من فقرة: "هُوَ بِالْمَنْظَرِ الأَعْلَى" هو أنَّه تعالى يعلم من أحوال خلقِه وعباده بكلِّ شيء الذي يؤيد ذلك ما ورد في وداع الإمام الحسن المجتبى (ع) لأبي ذر الغفاري حين سيَّره عثمان إلى الربذة عن أبي جَعْفَرٍ الْخَثْعَمِيُّ قَالَ: قَالَ لَمَّا سَيَّرَ عُثْمَانُ أَبَا ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ شَيَّعَه أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وعَقِيلٌ والْحَسَنُ والْحُسَيْنُ (ع) وعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْه، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْوَدَاعِ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.. ثُمَّ تَكَلَّمَ الْحَسَنُ (ع) فَقَالَ: يَا عَمَّاه إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ أَتَوْا إِلَيْكَ مَا قَدْ تَرَى وإِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ بِالْمَنْظَرِ الأَعْلَى، فَدَعْ عَنْكَ ذِكْرَ الدُّنْيَا بِذِكْرِ فِرَاقِهَا وشِدَّةِ مَا يَرِدُ عَلَيْكَ لِرَخَاءِ مَا بَعْدَهَا، واصْبِرْ حَتَّى تَلْقَى نَبِيَّكَ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وآلِه وهُوَ عَنْكَ رَاضٍ إِنْ شَاءَ اللَّه .."(2).
فقول الإمام الحسن (ع): "وإِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ بِالْمَنْظَرِ الأَعْلَى" معناه أنَّه تعالى يعلمُ بما اجترحه القوم في حقِّك، فلا يخفى عليه الظلم الذي وقع عليك، فهو (ع) قد أراد من ذلك تسليته، وأنَّه لما كان الله تعالى يعلمُ بظلامتك فإنَّه سيأخذُ لك بحقِّك ممَّن ظلمك.
وكذلك يمكن تأييد ما ذكرناه من معنىً للفقرة المذكورة بما أُثر عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: "الحمدُ لله المُحتجِبِ بالنور دون خلقِه .. وهو يَرى وهو بالمنظر الأعلى .."(3).
فقوله (ع): "وهو بالمَنظر الأعلى" بعد قوله: "وهو يرى" لإفادة أنَّ رؤيتَه تعالى شاملة ومستوعِبة ومُحيطة بكلِّ شيء كما هو مقتضى كونه الأعلى على نحو الإطلاق، فما من شيءٍ إلا وهو دونه، فكأنَّ قوله: "وهو بالمَنظر الأعلى" سِيق لغرض التعليل لقوله: "وهو يرى" فهو يرى كلَّ شيءٍ من خلقِه لأنَّه بالمنظر الأعلى.
احتمالٌ آخر لمعنى الفقرة:
وهنا احتمالٌ آخر للمراد من فقرة: "يَا مَنْ هُوَ بِالْمَنْظَرِ الأَعْلَى" أي يامن رفعته هي الأعلى على نحو الإطلاق، فلا تصلُ إليها رفعةٌ مهما تعاظمتْ، ولا تُداني كمالَه مرتبةٌ مهما تَسامتْ، ولا تبلغُ العقولُ مجتمعةً كُنْهَ عظمتِه، ذلك لأنَّه جلَّ وعلا بالمنظر الأعلى أي ذلك لأنَّه في المقام الأعلى، ومن المعلوم أنَّ الأدنى لا يُحيط بالأعلى. فاستعمل المنظر الأعلى والذي هو اسم مكان للتعبير عن كونه -سبحانه- في المقام الأعلى الذي لا يبلغُ شأوَه مِن أحدٍ على نحو الإطلاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الكافي -الكليني- ج2 / ص484.
2- الكافي -الكليني- ج8 / ص207.
3- علل الشرائع -الصدوق- ج1 / ص119، بحار الأنوار -المجلسي- ج11 / ص38.
الشيخ محمد صنقور
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد عباس نور الدين
الشيخ حسن المصطفوي
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ شفيق جرادي
محمود حيدر
عدنان الحاجي
الشيخ مرتضى الباشا
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
يا من هو بالمنظر الأعلى
الكون في نظر الإسلام
التوسّل بين المغالين والمفرطين
مراحل التعلّم من اللاوعي إلى الإنتاج
كلمة (فرق) في القرآن الكريم
تحدي القرآن بالبلاغة (1)
كيف فشلت مؤامرة قريش على النبي (ص) في مكة؟
كلمة نزل في القرآن الكريم
الاعتراف بحجية العقل في مجالات خاصة
الحياة والموت.. سوداوية أم رجاء