علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

إثبات وجود العقل (2)


الشيخ محمد تقي مصباح يزدي ..
هل القيم نسبية؟
بحسب هذه النظرية فإن الأحكام المتعلقة بالعلوم والتي تكون طرقها تجريبية يجب النقاش فيها حتى نصل إلى نظرية أتقن وأقرب إلى الواقع، أما المسائل المتعلقة بالقيم فهي تابعة للتوافق بين الناس فإذا كان هناك مشاحة فإنما هي بعد الإتفاق على قبول أمر مشترك يتعلق بالجميع فيجب عليهم مراعاته لئلا يحصل الإختلاف والنزاع بين الناس فينجر إلى الفوضى. أما ما يتعلق بأنفسهم وأسرتهم فهذا لا مشاحة فيه، فأهل دين يقولون بحسن شي‏ء وأهل دين آخر يقولون بقبحه فليتساهل في ذلك! فعلينا أن نلقي الضوء على هذه المسألة.
هل القيم أمور اعتبارية تابعة لأذواق الناس وتوافقاتهم وآدابهم الخاصة أو لها حقائق وراء هذه الاتفاقات؟ والنتيجة لهذا الاختلاف تظهر في أنه إذا قلنا إن للقيم أرصدة واقعية يمكننا المناقشة في حسن شي‏ء وقبحه ولنا أن نستدل على حسن أو قبح شي‏ء لأن له رصيداً واقعياً، فنقارن بين هذه القيمة والرصيد الواقعي الذي خلفها فإذا تطابقت القيم مع أرصدتها الواقعية فنقول أنها قيم أصيلة وحقيقية وإن لم يحصل بينهما ذلك التطابق قلنا قيم زائفة غير حقيقية. فالتصديق بقيم وإدانة قيم أخرى سلبية إنما يصح إذا قلنا بأن وراء القيم واقعيات هي أرصدة لتلك القيم، وأما إذا قلنا بأن القيم هي مجرد اعتبارات فردية أو جماعية ليس وراءها شي‏ء فلا يمكن الاستدلال لكون هذه القيم حقة.
 فإذا قلنا أن الأحكام الإسلامية حقة وقانون الشرع قانون حق يكون معناه أن هذه القيم لها أرصدة واقعية تابعة لمصالح ومفاسد موجودة في الخارج أو ينتهي تنفيذ تلك القوانين إلى تلك المصالح، فهذه الأحكام تستند إلى خلفيات وأرصدة واقعية، ومعناه أن القيم ليست اعتبارية محضة فليست تابعة لأذواق الأشخاص وأحساسيسهم ومشاعرهم وإنما هي تابعة لأمور واقعية، وإن كانت تقارنها طموحات ونزعات وميول أو نفور واشمئزاز في بعضها لكن الملاك الواقعي للحكم بالحسن والقبح وبالوجوب واللاوجوب هي تلك المصالح والمفاسد الواقعية.
هذه المسألة من شأنها أن تطرح على صعيد المباحث الفلسفية فيستدل عليها بالبراهين، لكن وراء طرح هذه المسائل أغراض فردية واجتماعية، فطرح هذه المسألة على صعيد البحث إنما حدث في العالم الغربي بعد عهد(النهضة) وبعد القضاء على الحكم الديني وهزيمة رجال الدين المسيحي في مقابل العلماء والمكتشفين، فدار النقاش حول الأحكام الدينية وما يتذوقه الناس ويَهْوَونه بأيهما يأخذون أما الدين فقد انهزم في هذه المعركة، وأسباب الهزيمة كما تعرفون هي الخرافات الموجودة في الدين المسيحي، وما أضاف إليها أرباب الكنائس فانهزم الدين في معركته مع العلم لكن الذين كان لهم تعلّق بالدين ما كان يمكنهم رفضه تمامًا، فاحتالوا للمصالحة بين العلم والدين فانتهجوا مناهج كثيرة منها هذه القضية وهي الفصل بين الواقع والقيم، فقالوا إن أحكام الدين من القيم والاعتبارات ولهذا لا تعارض الأحكام الواقعية للعلوم. فالعلوم تكشف الأحكام الواقعية وللدين أحكام اعتبارية فالمناسك والآداب والمسائل الأخلاقية كلها من القيم، فالحقل الذي يتعلق به العلم يختلف عما تتعلق به القيم فلا تعارض بينهما، وبهذا يتصالح الدين والعلم حيث توزع حقول المعرفة بينهما، فالحقل المتعلق بالواقع يتعلق بالعلم والذي تحكم فيه الاعتباريات هو للدين والاخلاق وما إلى ذلك. ولهم معالجات أخرى لعلنا نشير إليها في أبحاثنا اللاحقة.
علينا أن نتأكد من نتيجة هذا البحث هل للقيم رصيد واقعي أم لا. فطريقة البحث إذا كانت فلسفية يجب علينا إقامة البراهين على ذلك أو إقامة أبحاث جدلية كما فعلنا في البحث السابق حيث سألنا عن رأي شخص وحاولنا أن ندين آراءه خلال تلك المساءلات، لكن هذا النوع من البحث يطول بنا إذا أردنا التفصيل فالنظرية التي نقبلها هي أن الاعتبارات المسماة بالقيم مختلفة لكونها تشتمل على الآداب الاجتماعية. فمن تلك القضايا ما هو تابع للتوافقات بين الأشخاص أو الجماعات ومنها آداب الاحترام والإكرام، فقوم لأجل إكرام الضيف أو شخص كريم يقومون له وقوم يجعلون أيديهم على رأسهم وبعض آخر يرفعون قلنسوتهم وأما نحن فتحيتنا سلام "وتحيتهم فيها سلام" "فهذه الآداب لا تستند إلى أرصدة واقعية وإنما هي رسوم، لا يصح أن يقال أن هذا حقيقة وذاك ليس بحقيقة فليس لها حقائق إنما هي أمور يتوافق عليها، فمثل هذه الاعتبارات إذا سميناها أموراً دينية فهي لا تستند إلى خلفيات وأرصدة واقعية، ولا يمكن الاستدلال على أن هذا الأدب هو الصحيح وسائر الآداب خاطئة، لكن ليس معنى ذلك أن كل ما يسمى بالقيم أو الاعتباريات كذلك.


أصالة القيم
فحيث نقول حفظ الأمانة حسن فليس ذلك أمراً يُتفق عليه، بل هو أمر به قوام المجتمع وكذا الصدق في الكلام أو العدل والإحسان، كل هذه المفاهيم لها أرصدة واقعية، فإنه إذا لم يعتبر حفظ الأمانة في مجتمع فسوف ينتهي أمر هذا المجتمع إلى البوار، وكذا صدق الحديث وسائر القيم الأخلاقية، إذا كان الكذب شائعاً ولم تكن له قيمة سلبية فلا يمكن لأي إنسان أن يعتمد على كلام الآخرين فتلغو فائدة التفاهم والأخبار، لأن كل قائل إذا كان من عادته أن يكذب فلا يعتمد على قوله فتسقط فوائد التفاهمات فلا ينتفع إنسان بإخبار اخرين.
 فهذه القيمة لها رصيد واقعي، أي رصيد يؤثر أثراً إيجابياً في حياة الإنسان في هذه الدنيا وما بعدها، فهذا القسم من القيم هو الذي يؤثر في حياتنا إما في سعادة الحياة أو في شقائها، بعبارة أخرى تؤثر في وصولنا إلى الغاية المنشودة أو ابتعادنا عن تلك الغاية. فإذا أثر عمل في اقترابنا من الغاية المنشودة يسمى حسناً ونقول يجب، أما إذا أثر في ابتعادنا عن الغاية والكمال المطلوب وسعادتنا في الحياة سواء الدنيوية أو الأخروية يسمى قبيحاً ونقول يحرم. فهذا الوجوب والحرمة غير ما تتصف به الآداب الاجتماعية التابعة للرسوم والتوافقات، فهناك مغالطة حيث يستدلون بالآداب الاجتماعية وكونها من التوافقات على أن كل القيم اعتبارية لا حقائق وراءها، هي مغالطة من قبيل تعميم الخاص، نعم هناك اعتبارات لا رصيد ولا واقع لها لكن ليست كل الأمور الاعتبارية كذلك، وهذه المغالطة من المغالطات الشائعة في المدارس الفلسفية السائدة في الغرب، فيجب علينا الالتفات والتنبه إلى تلك المغالطات ونقدها ومناقشتها.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد