علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

بُرهان النّظم (1)


الشيخ جعفر السبحاني ..
• من البراهين على وجود الله: برهان النظم وهو يبتني على أربع مقدمات
الأولى: إِنَّ وراء الذهن الإِنساني عالماً مليئاً بالموجودات، محتفاً بالظواهر الطبيعية. وإِنَّ ما يتصوره الإِنسان في ذهنه هو انعكاس للواقع الخارجي، وهذه المقدمة قد أطبق عليها الإِلهيّ والماديّ رافضَيْن كل فكرة قامت على نفي الواقعية ولجأت إلى المثالية، بمعنى نفي الحقائق الخارجية.
إِنَّ كل إِنسان واقعي يعتقد بأَنَّ هناك قمراً وشمساً وبحراً ومحيطاً وغير ذلك. كما يعتقد بوجوده، وذهنه والصور المنعكسة فيه، وهذه هي الخطوة الأُولى في مضمار معرفة الله، وهي التصديق بالواقعيات. ويشترك فيها الفلاسفة الواقعيون، دون المثاليين بمعنى الخياليين.
وبذلك يظهر أنَّ رمي الإِلهي بالمثالية بمعنى نفي الواقعيات، افتراءٌ وكذبٌ عليه، إِذ لا يوجد على أديم الأرض من يكون إِلهياً وفي الوقت نفسه ينفي واقعيات الأَشياء والظواهر الطبيعية. ولو وجد هناك إِنسان بهذه العقيدة فليس من تلك الزمرة، وإِنما هو من المنحرفين عن الفطرة السليمة الإِنسانية.
وما ربما يحكى عن بعض العرفاء من أَنَّ الموجود الحقيقيّ هو الله سبحانه وما سواه موجود بالمجاز، فله معنى لطيف لا يضرّ بما قلناه، وهذا نظير ما إِذا كان هناك مصباح في ضوء الشمس، فيقال: إِنَّ الضوء ضوء الشمس ولا ضوء لغيرها، فهكذا وجود الممكنات، المفتقرات بالذات، بالنسبة إلى واجب الوجود القائم بالذات.
الثانية: إِنَّ عالم الطبيعة خاضع لنظام محدد، وإِنَّ كل ما في الكون لا ينفك عن النّظم والسنن التي كشفت العلوم الطبيعية عن بعضها، وكلما تطورت هذه العلوم خطا الإِنسان خطوات أُخرى في معرفة الكون والقوانين السائدة عليه.
الثالثة: أصل العلية، والمراد منه أنَّ كل ما في الكون من سنن وقوانين لا ينفكّ عن علة توجده وأنَّ تكون الشيء بلا مكوّن وتحققه بلا علة، أمر محال لا يعترف به العقل، بالفطرة، وبالوجدان والبرهان. وعلى ذلك فكل الكون وما فيه من نظم وعلل نتيجة علة أوجدته وكونته.
الرابعة: إِنَّ دلالة الأَثر تتجلى بصورتين:
أ- وجود الأَثر يدل على وجود المؤثر، كدلالة المعلول على علّته، والآية على صاحبها، وقد نقل عن أَعرابي أَنَّه قال: "البعرة تدل على البعير، وأَثر الأقدام يدل على المسير"، إلى غير ذلك من الكلمات التي تقضي بها الفطرة. وهذه الدلالة مما لا يفترق فيها الماديّ والإِلهي، وإِنما المهمّ هو الصورة الثانية من الدَّلالة.
ب- إِنَّ دلالة الأَثر لا تنحصر في الهداية إلى وجود المؤثر، بل لها دلالة أُخرى في طول الدلالة الأُولى، وهي الكشف عن خصوصيات المؤثر من عقله وعلمه وشعوره، أو تجرده من تلك الكمالات والصفات وغيرها. ولنوضح ذلك بمثال:
إِنَّ كتاب "القانون" المؤلف في الطب، كما له الدَّلالة الأُولى وهي وجود المؤثر، له الدَّلالة الثانية وهي الكشف عن خصوصياته التي منها أَنَّه كان إنساناً خبيراً بأُصول الطب وقوانينه، مطّلعاً على الدَّاء والدَّواء، عارفاً بالأَعشاب الطبية، إلى غير ذلك من الخصوصيات.
والملحمة الكبيرة الحماسية لشاعر إيران (الفردوسي) لها دلالتان: دلالة على أَنَّ تلك الملحمة لم تتحقق إلا بظل علَّة أَوجدتها، ودلالة على أَنَّ المؤلف كان شاعراً حماسياً مطلعاً على القصص والتواريخ، بارعاً في استعمال المعاني المتناسبة مع الملاحم. ومثل ذلك كل ما تمر به مما بقي من الحضارات الموروثة كالأبنية الأثرية، والكتب النفيسة، والصنائع المستظرفة اليدوية والمعامل الكبيرة والصغيرة، إلى غير ذلك مما يقع في مرأى ومنظر كل إِنسان. فالمهم في هذا الباب هو عدم الإِقتصار على الدلالة الأُولى بل التركيز على الدلالة الثانية بوجه علمي دقيق.
وعلى ضوء هذه القاعدة يقف العقل على الخصوصيات الحافة بالعلة، ويستكشف الوضع السائد عليها، ويقضي بوضوح بأَنَّ الأَعمال التي تمتاز بالنظام والمحاسبة الدقيقة، لا بد أَنْ تكون حصيلة فاعل عاقل، استطاع بدقته أن يوجد أثره وعمله، هذا.
كما يقضي بأنَّ الأَعمال التي لا تُراعَى فيها الدّقة اللازمة والنظام الصحيح، تكون ناشئة عن عمل عامل غير عاقل، وفاعل بلا شعور ولا تفكير، فهذا ما يصل إليه العقل السليم بدرايته.
• ولتوضيح الحال نأتي بالمثالين التاليين
المثال الأول: لنفترض أَنَّ هنا مخزناً حاوياً لأطنان عدة من مواد البناء بما فيها الحجر والحديد والإِسمنت والجص والخشب والزجاج والأَسلاك والأنابيب وغيرها من لوازم البناء، ثم وضع نصف ما في هذا المخزن تحت تصرف أَحد المهندسين أَو المعماريين، لينشئ به عمارة ذات طوابق متعددة على أَرض منبسطة.
وبعد فترة من الزمن جاء سيل جارف وجرف ما تبقى في المخزن من مواد الإِنشاء وتركها على شكل تل على وجه الأرض.
إِنَّ العمل الأَول (العمارة) قد نتج عن عمل وإِرادة مهندس عالم.
أَمَّا الثَّاني (التل) فقد حدث بالفعل الطبيعي للسيل من دون إِرادة وشعور.
فالعقلاء بمختلف مراتبهم وقومياتهم وعصورهم يحكمون بعقلانية صانع العمارة، ومدى قوة إِبداعه في البناء، من وضعه الأعمدة في أَماكنها المناسبة وإِكسائه الجدران بالمرمر، ونصبه الأَبواب في مواضعها الخاصة، ومدّه الأَسلاك وأَنابيب المياه الحارة والباردة ووصلها بالحمامات والمغاسل، وغير ذلك مما يتبع هندسة خاصة ودقيقة.
ولكن عندما نخرج إلى الصحراء كي نشاهد ما صنعه السيل، فغاية ما نراه هو انعدام النَّظام والترتيب فالحجر والمرمر قد اندثر تحت الطين والتراب، والقضبان الحديدية قد طرحت إلى جانب، والأَسلاك تراها مقطعة بين قطعات الآجرّ، والأَبواب مرمية هنا وهناك، وغير ذلك من معالم الفوضى والتبعثر. وبشكل عام، إِنَّ المعدوم من هذا الحشد هو النظام والمحاسبة، إِذ لا هندسة ولا تدبّر.
فالذي يُستنتج أنَّ المؤسس للبناء ذو عقل وحكمة، والمُحْدِث للتل فاقد لهما، فالمهندس ذو إِرادة والسيل فاقد لها، والأَول نتاج عقل وعلم، والثاني نتاج تدفق الماء وحركته العمياء.
المثال الثاني: لنفترض أنَّنا دخلنا إلى غرفة فيها شخصان كل منهما جالس أمام آلة طابعة يريدان تحرير قصيدة لأحد الشعراء فالأول يحسن القراءة والكتابة، ويعرف مواضع الحروف من الآلة والآخر أمّي لا يجيد سوى الضغط بأصابعه على الأزرار، فيشرعان بعملهما في لحظة واحدة. الذي نلاحظه أنَّ الأول دقيق في عمله يضرب بأصابعه حسب الحروف الواردة في القصيدة دون أن يسقط حرفاً أو كلمة منها.
وأَمَّا الآخر، الأُمي البصير، فيضرب على الآلة دون علم أَو هدىً ولا يستطيع أَنْ يميز العين من الغين، والسين من الشين: ونتيجة عمله ليست إِلاّ الهباء وإِتلاف الأَوراق، ولا يأتي بشيء مما أَردناه:
فنتاج الأول محصول كاتب متعلّم، ونتاج الثاني محصول جاهل لا علم له ولا خبرة ولو أُعطي المجال للألوف ممن كف بصرهم وحرموا لذة العلم والتعلم أَنْ يحرروا نسخة صحيحة من ملايين النسخ التي يحررونها لاستحال ذلك، لأَنهم يفقدون ما هو العمدة والأَساس.
ولعلَّنا نشاهد في كل جزء من هذا الكون مثل تلك الصفحة التي حررت فيها قصيدة الشاعر وترانا ملزمين بالإعتراف بعلم ومعرفة وحسن أُسلوب كاتبها ونجزم بأَنه بصير لم يكن فاقداً للعلم، ولم يكن فعله مشابهاً لفعل صبي رأى نفسه في غرفة خالية، فطرق في خياله أَنْ يلهو ويلعب على آلة طابعة كي ينتج تلك الصفحة من قصيدة الشاعر.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد