علمٌ وفكر

حديثنا صعب مستصعب


الشيخ جوادي آملي ..
كلّ ما جاء حول صعوبة واستصعاب أمر أهل البيت (ع) فإنّه ناظر إلىٰ موارد مختلفة ومتعدّدة بعضها يتعلّق بولايتهم التكوينيّة وعلمهم بالغيب ممّا يصعب إدراكه بنحو منزّه من الغلوّ وبعيد عن التفويض الباطل، وبعضه يتعلّق بالخلافة السياسيّة وقيادة الأمّة الإسلاميّة ممّا يكون تحمّله مستصعباً لعبيد الدنيا المُتقمّصين لرداء الخلافة المغصوب من قِبَل تيم وعَديّ أو المفتونين بالطعام الأدسم الأموي أو الجبناء الخائفين المرتجفين من السيوف المسمومة للناكثين والقاسطين والمارقين.
وبعضها يعود إلىٰ معرفة الملكوت وما هو أعلىٰ منه حيث إنّ ارتفاعه وعلوّه أسمىٰ من «بُعد الهِمم». وغَورهُ أعمق من (غوص الفطن)، فلا الحكماء والمتكلّمون العاديّون ـ بما أوتوا من قدرة وسعة في العلم الحصولي ـ قادرون علىٰ التحليق والارتقاء إلىٰ تلك الدرجة، ولا العرفاء بوسائل علمهم الحضوريّ والشهوديّ يتيسّر لهم أن يغوصوا إلىٰ أعماق ذلك اليمّ أو يسبروا غوره.
والعناوين المأخوذة في لسان أحاديث الصعوبة والاستصعاب متعدّدة؛ منها: «أمر» و«علم» و«حديث». وكلّ من يستطيع أن يتحمّل منح وهبات أولئك الذوات النورانيّة فهو الّذي يحظىٰ بالفوز وينعم بالعطايا الإلٰهيّة الخاصّة، وهو إمّا «ملك مقرّب» أو «نبي مرسل» أو «عبد ممتحن بتقوىٰ الله». ولذلك يجب أن يؤخذ في تعريف علم الحديث قيد (بقدر الطاقة البشريّة)، مثلاً إذا كان إدراك الأسماء الحُسنىٰ الأربعة {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِن}[1] وكذلك معرفة الرجوع بصورة الانقلاب للأشياء نحو الله سبحانه: {يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُون}[2] وأمثالها أمراً صعباً، بحيث يضطرّ البعض لتفسيرها بتقدير مضاف محذوف وأمثال ذلك، فإنّ إدراك معنىٰ دخول الله سبحانه في جميع ذرّات الأشياء دون الامتزاج بها وخروجه منها دون البينونة والانفصال عنها أمر مستصعب أيضاً: «ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج».[3]
إنّ السرَّ في صعوبة الإدراك الصحيح لسنّة المعصومين(ع) هو عين السرّ في صعوبة الإدراك الصحيح للقرآن الكريم ويرجع ذلك إلىٰ أمرين: أحدهما أنّ ثِقَل الكلام ومتانته يؤدّي إلىٰ صعوبة استيعابه الفكري لاسيّما إذا كان المتكلّم وهو الله سبحانه قد وصف القرآن بالثقيل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلا}[4]، وآل البيت المعصومون(ع) قد وصفوا كلامهم بالصعب؛ كما يقول أمير المؤمنين(ع) «إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحمله إلاّ عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان»[5]، كذلك يقول النبيّ الأكرم «إنّ حديث آل محمّد صعب مستصعب».[6] والآخر هو أنّ المتكلّم قد تجلّىٰ في كلامه كما تحدّث أمير المؤمنين عليّ(ع) حول القرآن فقال: «فتجلّىٰ لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه»[7] وهذا المعنىٰ بعينه صادق أيضاً في مجال تجلّي النبوّة والرسالة والولاية والإمامة في الأحاديث الخاصّة للنبيّ وآله.
لأنّ كل متكلّم فهو يختبئ تحت لسانه «المرء مخبوء تحت لسانه»[8] والله سبحانه وخلفاؤه الحقيقيّون قد تجلّوا في كلامهم الخاصّ، وحيث أنّ قدرة الإدراك والإستيعاب لثقافة الحوار وأداة التفاهم ومِرآة الأدب البشريّة لا طاقة لها علىٰ تحمّل تجلّي المتكلّم السماوي ورؤية الملكوت، لذلك فإنّ من الصعوبة جدّاً علىٰ المُخاطَبين أن يدركوا بسلوك طريق العلوم الأدبيّة المتعرّج ودهاليز قوانين المعاني والبيان والبديع والمفردات الإنسانيّة الضيّقة مقصود المتكلّم الخارج عن مجال الطبيعة، وأن يعرفوا ذلك المتكلّم جيّداً بواسطة النظر إلىٰ مجال تجلّيه وأن يقفوا بعمق علىٰ مقصوده النهائيّ وغايته المستورة.
إنّ السرَّ في صعوبة إدراك العلم الخالص النقيّ المرتبط بسُنّة المعصومين(ع) ليس دائماً في مستوىٰ واحد فهو للمحقّقين والمجتهدين من ذوي الأتباع والمؤيّدين يكون صعباً إذا أفل كوكب برهانهم أو غابت شمس شهودهم، سواء كانت دولتهم وشوكتهم مؤجّلة أم مُعجّلة، وإذا كان لهم حظ وافر ودائم من النور الباطني للبرهان والبرق اللامع المكنون للعرفان، فإنّ الدولة الكريمة لفكرهم الحصوليّ أو شهودهم الحضوريّ لها حظ من البقاء والدوام، وهي من الفيض الثابت وإذا كانت «كالبرق الخاطف» للخائض في الظلمات، فإنّها محكوم عليها بالفناء والزوال: «ليس في البرق الخاطف مُستمتع لمن يخوض في الظلمة».[9]

وهو للمقلّدين المطيعين والتابعين مستصعب عندما يخلعون يد الطاعة والتبعيّة وتُرفع عنهم يد رعاية ومداراة الأستاذ ووليّ النعمة ويزول ظلّه من فوق رؤوسهم، لأنّ المتكلّم أو الكاتب المقلّد كالأعمىٰ المستند إلىٰ عصا هداية وإرشاد المحقّق المجتهد، فإذا ما خمدت جذوة ذلك القائد، فإنّ قدم التابع الأعمىٰ سوف ترتبك، وما إن تسقط عصا التقليد من يده حتّىٰ يتوقّف ويهوي نحو أسفل محلّه السابق، لأنّ السبب الوحيد لوعيه واهتدائه إلىٰ الطريق هو قيادة القائد اليقظ وولي الأمر الحاذق، فإذا ما قطعت حلقة التبعية والاهتداء بالمحقق الجدير بالطاعة والاتباع فإنّه سينحدر نحو العمىٰ والضلال ويعتريه الذبول والجفاف، لأنّ المصدر الوحيد لحركة ونشاط ذلك المتحدّث أو الكاتب المقلّد هو الطاعة والتبعيّة للمحقّق، فهو مدين له في بصيرته وحركته فإذا ما انفصمت عرىٰ الإرتباط بينه وبين وليّ النعمة ومصدر العطاء فإنّ أمره سيؤول إلىٰ العمىٰ والضمور وانّ ينابيعه ستغور وتنضب، لأنّ المقلّد المطيع الّذي ينهل بفضل تقليده من عين الماء ويرتوي منها ما إن يُسلب منه توفيق الاهتداء بالتقليد والوصول إلىٰ الماء الزلال حتّىٰ يقع في السراب. إذن من الأفضل للإنسان أن يقيم أموره ويكتفي بذاته ويعتمد علىٰ نفسه ولا يكون كلاًّ علىٰ غيره فيقترض من الغير، لأنّ مثل هذا القرض سيُلقي بالإنسان في الهمّ والغمّ والذل: «إيّاكم والدَيْن فإنّه همٌّ بالليل وذلّ بالنهار».[10]


[1] . سورة الحديد، الآية 3.
[2] . سورة العنكبوت، الآية 21.
[3] . نهج البلاغة، الخطبة 186، المقطع 4.
[4] . سورة المزمّل، الآية 5.
[5] . نهج البلاغة، الخطبة 189، المقطع 4.
[6] . اُصول الكافي، ج1، ص401.
[7] . نهج البلاغة، الخطبة 147، المقطع 2.
[8] . نهج البلاغة، الحكمة 148.
[9] . البحار، ج74، ص286.
[10] . البحار، ج100، ص141.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد