علمٌ وفكر

أدب النقد

 

الشيخ جوادي الآملي‏ .. 


النقد البنّاء بكل أشكاله ومجالاته أصبح اليوم مطلباً علمياً ملحاً، وبالالتفات إلى الحديث الشريف "كونوا نقّاد الكلام" تتضح أهمية التعرف على أدب النقد وأصوله.
أولاً: إن نقد ودراسة مطالب أي كتاب هي غير التحقيق في آراء مؤلفه الشخصية. لأن لإبداء وجهات النظر بشأن مضمون أية كتابة يكفي صرف الظهور اللفظي ومراعاة قواعد الحوار والقواعد الأدبية، لكن الحكم في مجال عقائد مؤلف يحتاج إضافة إلى ما ذكر إلى شروط أخرى مثل:
- أن يكون أصل النص المكتوب مستندًا إلى الكاتب على نحو اليقين.
- كل ما جاء في الكتاب هو ما كتبه المؤلف بدون تحريف أو تفسير.
- أن لا يكون هدف المؤلف مجرد جمع الأقوال والنصوص بدون الحكم عليها برأيه بالصدق أو الكذب، بل أن يكون هدفه بيان الواقع والحكم ونقل الصدق.
- أن يكون المؤلف حرّاً عند كتابته ولا يعيش التقية أو الخوف من الأعداء.
- أن يكون ما جاء في الكتاب آخر ما كتبه المؤلف حول الموضوع المحدد ويتضمن رأيه النهائي.

فبعض المؤلفين وفي مقدمة كتابهم يخبرون عن اعتمادهم التام على كل ما جاء في مضمون الكتاب كما فعل ابن بابويه القمي قدس سره، في مقدمة "من لا يحضره الفقيه".
أو البعض الآخر، فإن هدفه يكون مجرد الجمع والنقل وهو يعفى نفسه من التمييز والحكم على المنقول بل يكل الأمر إلى الباحثين والمحققين كالعلامة المجلسي "قده" في كتابه "بحار الأنوار".
ثانياً: والأمر الآخر ضرورة ملاحظة نقاط قوة المؤلف وابتكاراته الفكرية حين دراسة آثاره العلمية وخصوصية عصره ومدى تأخره.
فلو عاش ذلك المؤلف صاحب الذاكرة الواسعة والنبوغ البالغ والذكاء المتوقد في عصر الناقدين لأدرك عصره أكثر، ولقدم لمعاصريه خدمة علمية عميقة، ولو كان الناقدون في المقابل يعيشون في عصره فالأغلب أنهم ما كانوا ليدركوا ظروف عصرهم ولما صانوا أنفسهم من المزالق الفكرية في ذلك. العصر. لأن الكثير من بديهيات العصر المتأخر تعتبر جزءاً من المسائل النظرية للعصر المتقدم. وكذلك فإن العديد من المبادى‏ء الواضحة للعصر اللاحق كانت تعد من المسائل الصعبة للعصر السابق.
ومن هنا يتضح حق تقدم المتقدمين، فهم بتحملهم لمرارة الخطأ وعبورهم للطرق الشاقة جعلوا الكثير من النظريات والآراء: بديهية، والعديد من القضايا: مبادئ‏ ، فلم تعد خارجة عن البحث فحسب، بل صار يستمد منها مبادئ‏ ومقدمات مسلمة لكي يستنبط من خلالها مسائل نظرية أخرى.


وكمثال على ذلك نذكر هذه القصة:
يروي المرحوم الكليني في كتاب التوحيد في الكافي باب "الكون والمكان". أن زرارة قال: سألت الإمام الباقر عليه السلام: أكان الله ولا شي‏ء؟ قال: "نعم كان ولا شي‏ء". قلتُ: فأين كان يكون؟ أو كان متكئاً فاستوى جالساً، فقال: أحلت "أي نطقت بالمحال" يا زرارة وسألت عن المكان إذ لا مكان".
من هذا الحديث يتضح أن موضوع عدم احتياج الله سبحانه إلى المكان والذي هو اليوم من الأصول المحلولة والمسلمة والقاعدة لحل الكثير من المسائل النظرية، كان في الماشي بالنسبة لفقيه مشهور مثل زرارة من القضايا والموضوعات التي لا حل لها، ولو عاش زرارة في عصرنا هذا لكان نفسه من المدرسين المهمين في هذا الحقل من المعارف.
وبناء على هذا، فإن الالتفات إلى عصر التأليف يخفف من حدة وشدة الانتقاد، ولا يتعدى الناقدون عندها انتقاد أصل المطلب إلى الجرح والقدح بمؤلفه.
ثالثاً: إن حرمة قِدم القدماء ليست فقط في أسبقيتهم الزمانية بل أن حقهم في التربية والتعليم يبقى محفوضاً.
لكن هذا النوع من الحقوق لا يكون مانعاً من النقد البناء والتجريح العادل لآثارهم، وإلا لما كانوا هم أنفسهم لينهضوا إلى دراسة آراء العلماء الذي سبقوهم ولما بادروا إلى انتقادها والتنقيب فيها. بل أن عدم التعرض لآرائهم سوف يكون نوعاً من الإعراض المشوب بالاعتراض. لهذا فإن تكريمهم يمكن في نقل ونقد أفكارهم. وبقول ذلك الأصل الذي أشار إليه الشهروردي في شرح حكمة الأشراف أن:
"نيل المعارف الإلهية ليس وقفاً على أي عصر أو مصر أو جيل، بل أن الطريق مفتوح أمام الجميع والأبواب مشرعة لمن يريد".
يصبح سعي الناقدين المتبصرين أقوى وأنشط.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد