العلمانية منشأها وأسباب ظهورها وعوائق رواجها
أكبر أسد علي زاده ..
قراءة مختصرة في الجذور التاريخية للعلمانية
ظهرت النظرية العلمانية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر على أثر المنهج التفكيري والأساليب الاجتماعية والسياسية التي اتبعتها الكنيسة في الغرب، واستخدم تعبير (sewlarization) لأول مرة في اللغة الأوروبية عام 1648 في معاهدة فستغالي. وكان يقصد من تلك العبارة في تلك المرحلة أن المؤسسات والأراضي التي كانت موجودة تحت سلطة الكنيسة، قد خرجت عن سلطتها وأصبحت تحت سلطة سياسية غير دينية. لذلك استعانوا بعبارة "سكولاريس" للتعبير عن هذه الحقيقة. وفي الوقت عينه بدأ استعمال هذه العبارة بين الناس للإشارة إلى التفكيك بين الأمور المقدسة والدينية والأمور الدنيوية. وأصبح يطلق على القساوسة الذين يمارسون أعمالاً قساوسة سكولار.
واستعمل علماء الاجتماع في القرن العشرين هذا المصطلح في معنى آخر حيث أرادوا الإشارة إلى مجموعة الحركات والتحولات التي أدت إلى خروج المؤسسات الاجتماعية عن سلطة المراجع الرسمية الدينية والتي تم استبدالها بالأساليب العقلية وغير الدينية والعلمية والتجريبية.
يتضح مما تقدم أن العلمانية ظهرت في الغرب وقد امتدت لتشمل على جوانب وأبعاد مختلفة مع مرور الزمان. يقول ويلسون في هذا الشأن: "إن مسألة الفصل بين الدين والدنيا هو مفهوم غربي ظهر في أبرز صوره خلال القرن الحالي في الغرب".
عوامل ظهور العلمانية في العالم الغربي
يمكن إرجاع عوامل ظهور العلمانية في الغرب إلى مجموعتين أساسيتين (العوامل الداخلية والعوامل الخارجية):
1ـ العوامل الداخلية
المقصود من هذه العوامل المواقف الكلامية للدين المسيحي. فلو حاولنا الإطلالة وبشكل مختصر على الدين المسيحي لوجدنا مقدار النقص الذي يعاني منه على المستوى الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي. وإذا أخذنا بعين الاعتبار النمو والتطور المعرفي للبشر وتقدم العلوم التجريبية، فإن الدين المسيحي لم يتمكن من إيجاد مكان له على مستوى ذاك التطور والتقدم الحاصل.
يقول الأستاذ مطهري في هذا الخصوص: "قدمت الكنيسة سلسلة من المفاهيم الصبيانية وغير الكاملة حول الله، لا تتوافق مع الحقيقة بأي شكل من الأشكال. وهذا يعني أنها غير قادرة على إقناع الأشخاص المثقفين والواعين، لا بل جعلت هؤلاء يظهرون نوعاً من التنفر والكراهية للمذهب الإلهي".
بناءً على ما تقدم اضطربت حاكمية الكنيسة بحركة واحدة وظهر عجزها في مقابل حركة الإصلاح الديني التي قادها "مارتين لوثر" فظهرت فلسفة سياسية جديدة قضت على سلطة الكنيسة.
سنحاول الإطلالة على العوامل الداخلية ضمن محاور ثلاث:
أــ عدم ارتباط المسيحية بالوحي
يعتبر هذا الأمر العامل الأول لظهور الفكر العلماني في الثقافة الغربية. وأما العهدين (التوراة والانجيل) فهما عبارة عن رواية سلوك وأقوال النبي موسى عليه السلام والنبي عيسى عليه السلام ونقل أخبار حياتهم اليومية. التوراة والأناجيل الأربعة الموجودة حالياً ليست نصاً وحيانياً، وعدم وجود نص وحياني ساهم في ظهور أفكار وعقائد غير صحيحة وخرافية كعقيدة التثليث والمعصية الجبليّة والفداء و... وقد أدى هذا الأمر إلى الابتعاد عن العقلانية بالأخص فيما يتعلق بالعقائد الدينية.
ب - النقص في النصوص الدينية المسيحية (الأناجيل الأربعة)
لعل من أهم العوامل التي ساهمت في ظهور الفكر العلماني في الثقافة الغربية، هو الكتاب المقدس والنصوص العديدة التي أيدت مسألة التفكيك بين الدين والحكومة. فيما يلي نشير إلى بعض الشواهد من الأناجيل الأربعة:
بناءً على النص الموجود في الانجيل فإن تقسيم العمل بين الكنيسة والقيصر أمر مقبول. لأنه بناءً على النص ما لقيصر فهو لقيصر وما لله فهو للكنيسة. نقرأ في الانجيل العبارة التالية: "حينئذٍ ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين يا معلم نعلم أنك صادق ونعلم طريق الله بالحق ولا نبالي بأحد لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس. فقل لنا ماذا تظن. أيجوز أن نعطي جزية لقيصر أم لا. فعلم يسوع خبثهم وقال لماذا تجربونني يا مراؤون، أروني معاملة الجزية. فقدموا له ديناراً. فقال لهم لمن هذه الصورة والكتابة. قالوا له لقيصر. فقال لهم أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله".
يقول النبي عيسى عليه السلام في جواب سؤال بيلاطيس الذي سأله: هل أنت ملك اليهود؟: "مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلّم إلى اليهود. ولكن الآن ليست مملكتي من هنا".
عندما شاهد بعض الناس معجزة عيسى عليه السلام طلبوا منه أن يكون حاكماً عليهم، أما عيسى فقد امتنع عن ذلك: "وأما يسوع فإذا علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً إلى الجبل وحده".
يتضح من النصوص المتقدمة أن عيسى عليه السلام كان يسعى دائماً لإبعاد نفسه عن الحكومة والسياسة وكان يحذر المحيطين به من ذلك.
ج ـ الفقر في الكلام والإلهيات المسيحية
من العوامل التي ساهمت في وجود الأفكار العلمانية، الإلهيات والعقائد الجافة في المسيحية. إِن إصرار آباء الكنيسة على التمسك بظواهر آيات الانجيل، أدى إلى تقديم قراءة للدين لا تتناسب مع العقل والعلم وقد ساهم هذا الأمر في توجيه النقد للمسيحية وإفساح المجال للملحدين في التعرض للدين المسيحي. وفي هذا الإطار يمكن الاشارة إلى نماذج متعددة من جملتها المعصية الجبليّة ومسألة الفداء والتثليث وعصمة البابا...
1ـ ج ـ المعصية الفطرية ومسألة الفداء
يعتقد أصحاب الكنيسة أن معصية آدم في الجنة انتقلت إلى أبنائه، وهذا يعني أن جميع نسله عاصون بالفطرة، وأما التخلص من المعصية الفطرية فغير ممكنة عن طريق العبادات والأعمال الحسنة، لذلك قدم عيسى عليه السلام نفسه فداءً كفارة للمعاصي. نقرأ في رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية: "متبررين مجاناً بنعمته بالفداء بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه، لإظهار برّه من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله".
إن مسألة المعصية التي ارتكبها آدم منذ آلاف السنين والصفح عنها من خلال التضحية بإنسان آخر، جزء أساسي من العقائد الكلامية المسيحية التي روّج لها آباء الكنيسة ومن أبرزهم القديس "اغوستين" (354 ـ 430). واعتبرت مخالفة هذه العقيدة مخالفة للدين حيث يترتب على ذلك أنواع من العقوبات. لعل من أبرز المعارضين لهذه العقيدة القسيس "بلاكيوس" المعاصر لأغوستين الذي خلع عن منصب القساوسة ثم اختفى من الوجود.
2ـ ج ـ رسالة العفو أو الغفران
"رسالة العفو" من الأعمال الأخرى التي روجت لها الكنيسة، أي بيع الجنة بواسطة القساوسة. وكان العاصون يقدمون بعض الأموال للقساوسة بهدف العفو عن معاصيهم. ولعل البابا لوي العاشر كان من أبرز الذين عملوا على بيع المعاصي والذنوب بهدف بناء كنيسته الفخمة التي تطلبت مبالغ طائلة.
اعتبرت الكنيسة هذه الممارسة جزءً أساسياً من الإلهيات المسيحية حيث اعتمدوا في جوازها على كلام منسوب للسيد المسيح يخاطب به بطرس، يقول فيها: "وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات. وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السموات".
عارض الاصلاحيون عقيدة الكنيسة هذه وقد اعتبر ويل ديورانت أنها كانت الشعلة الأولى لحركة الاصلاح الديني.
من جهة أخرى أدت هذه العقيدة إلى وجود ورواج المفاسد والانحرافات في أوروبا وقد شرح "تامس غسكوين" رئيس جامعة اكسفور في العام 1450 الآثار السلبية لهذه العقيدة فقال:
"اليوم يقول العصاة: لا أهتم بمقدار المعاصي التي ارتكبها إذا ما وقفت أمام الله، فأنا ارتكب المعاصي، لأنني سأحصل على البراءة من المعاصي من خلال الاعتراف وطلب العفو من القساوسة. لقد انتشر بائعو رسائل العفو في أنحاء البلاد وكانوا يبيعون الواحدة بريالين (بنس) أو بجرعتين من الشراب أو ماء الشعير...".
3ـ ج ـ عصمة البابا وعدم قبول النقد
إن العصمة التي أحاطت الكنيسة بها ومصونيتها عن الخطأ، من الأمور الخاطئة في الكنيسة. تعتبر الكنيسة وعلى رأسها البابا أنهم جزء من مقدسات الدين المسيحي وخلافة الله وعيسى المسيح. فآراء الكنيسة بمنزلة الكتاب المقدس لا تقبل النقد لا بل هي واجبة الطاعة.
يقول القديس "اغوستبنوتر" في رسالته: "إن سلطة الباب من الله، لأنه خليفته والقائم مقامه على الأرض. وطاعة البابا واجبة حتى لو كان مستغرقاً في المعاصي... إن مقام البابا أعلى من مقام الملائكة".
إن نظرة إجمالية على العوامل الداخلية تبين أن النصوص الدينية المسيحية ساهمت بشكل كبير في ظهور الفكر العلماني.
2ـ العوامل الخارجية
المقصود من العوامل الخارجية مجموعة الشروط الظروف السياسية والثقافية الخاصة التي ساهمت في رشد ونمو وتطور العلمانية. فيما يلي نشير إلى أربع مسائل:
أ- الاختلاف بين الدولة والكنيسة
إن المشاجرة والخلاف الذي حصل بين البابا والسلطة الفرنسية بين الأعوام 1269 ـ 1303 أدت إلى الحد من سلطة البابا حيث كانت سلطة غير محدودة وقد ضمنها القانون له أما المشاجرة تلك أدت إلى تغيير في سلطته.
كذلك يمكن الإشارة إلى المشاجرة التي حصلت بين "جان الثاني والعشرون" و"لوي باوير" حيث أدى الأمر إلى ظهور عقيدة عدم استقلال البابا ، وساهم أيضاً في ازدياد الأصوات المنادية بعدم حاجة المجتمعات البشرية إلى بسط سلطة البابا وبالتالي المناداة بالعلمانية. وقد أدى الأمر في النهاية إلى اتباع عقيدة توماس آراس (القرن 16) القائلة بأن الدولة تمتلك حق الرئاسة على الكنيسة والمذهب والكنيسة تابعة للدولة. وهذا يعني الحد من سلطة الكنيسة وحصر دور القساوسة فيما يتعلق بالعالم الآخر.
ب ـ حركة الاصلاح الديني
لعبت حركة الاصلاح الديني دوراً مؤثراً في وجود العلمانية في الغرب وهي عبارة عن حركة تهدف إلى التقليل من دور الدين في الحياة.
يعتبر مارتين لوثر (1483 ـ 1546) من طلائع هذه النهضة حيث كان يعمل من أجل اصلاح الدين واحلال نوع من الانضباط في الكنيسة فقدم آراءً جديدة حول المسيحية. ومن جملة الأصول التي وصل إليها، الفصل بين الدين والسياسة حيث اعتبر أن الملوك يحصلون على سلطتهم من الله تعالى مباشرة وما على رجال الدين إلا الاهتمام بالأبعاد المعنوية والروحية.
ساهمت حركة الاصلاح الديني في تزلزل سلطة الكنيسة وظهور فلسفة سياسية جديدة أدت في النهاية إلى نوع من الحرب بين الفرق الدينية وبالتالي زوال قدرة وسلطة الدين وظهور العلمانية.
ج ـ الفساد المالي والأخلاقي للكنيسة
أدى الفساد المالي والأخلاقي لقساوسة الكنيسة إلى حذف الكنيسة عن الساحة السياسية والاجتماعية. لقد عمل القساوسة بكامل قوتهم وعبر طرق وأساليب متعددة للحصول على ثروات طائلة. ومن جهة ثانية كان الكثير منهم غارقين في المفاسد والمنكرات. وهكذا أصبح الناس يبتعدون عن الكنيسة بمجرد اطلاعهم على هذه الأمور.
ذكر ويل ديورانت في كتابه تاريخ الحضارة نماذج متعددة للفساد المالي والأخلاقي الذي كان يحيط بالقساوسة، نشير إلى بعض منها:
يقول القديس برناردنيو: "بما أن الكثير من الناس يشاهدون ما عليه الرهبان والقساوسة من وضاعة وحب للدنيا، لذلك نراهم بدأوا يفقدون إيمانهم".
يتحدث ديت نورنبرغ في لائحة أصدرها عام 1522 حول تمركز الثروات يقول: "لقد جمعت الكنيسة نصف ثروة الألمان، وخمس أو ثلاثة أرباع ثروة فرنسا وهناك ثلث أراضي بريطانيا تعود إليها".
يقول جان يروميار: "إن جميع القساوسة غارقون في عبادة البطون وعدم الطهارة. ولذلك تحولت مجامع الرهبان إلى أماكن للفحشاء والمفسدين...".
د ـ الخشونة في الكنيسة
إذا كان ينبغي على هداة الدين أن يكونوا أكثر استعمالاً للعطف والرأفة والمحبة وأن يتعاملوا مع الناس باحترام وتواضع فإن آباء الكنيسة كانوا يتعاملون بنهاية الخشونة حتى أن المفكرين والمثقفين كانوا لا يجرؤون على إظهار ما يخالف الكنيسة، بل كانوا مجبرين على التفكير بما يرضي الكنيسة فقط. وقد شاع هذا النوع من التعامل بين القرون 12 إلى 19 ميلادي في كل من فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، هولندا، البرتغال، النمسا وإسبانيا.
في هذا الإطار شكلت الكنيسة محكمة بهدف "تفتيش العقائد" استعملتها للقضاء على المعارضين. وكان لها قوانينها الخاصة والتي كانت تلزم احضار المخالفين وأصحاب البدع واستعمال أنواع التعذيب وأكثرها نفرة...
في العام 1401م أصدر هنري الرابع في بريطانيا أمراً بإحراق أصحاب البدع وذلك بطلب من الكنيسة. وقد ذكر ويل ديورانت تقريراً عن ضحاياه: "من العام 1480 إلى العام 1488، تم احراق 8800 شخص وحكم 96494 شخص بأحكام مختلفة.
"من العام 1480 إلى العام 1808 تم إحراق 31912 شخصًا وحكم على 291450 شخصًا بأحكام مختلفة".
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع
أمسية للشّاعرة فاطمة المسكين بعنوان: (تأمّلات في مفهوم الجمال بين الشّعر والفلسفةِ)
العظات والعبر في نملة سليمان
الكوّاي تدشّن إصدارها القصصيّ السّادس (عملاق في منزلنا)
اكتشاف أقدم أبجديّة معروفة في مدينة سوريّة قديمة
محاضرة للمهندس العلي حول الأنماط الحياتيّة من التّراث الدّينيّ
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (2)