علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
حيدر حب الله
عن الكاتب :
ولد عام 1973م في مدينة صور بجنوب لبنان، درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين في مدينة صور (المدرسة الدينية). ثم سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. عام 2002م، التحق بقسم دراسات الماجستير في علوم القرآن والحديث في كلّية أصول الدين في إيران، وحصل على درجة الماجستير، ثم أخذ ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالميّة في إيران (الحوزة العلمية في قم). من مؤلفاته: علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حجية الحديث، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع (خمسة أجزاء) ...

المدارات الفكرية (1)



حيدر حبّ الله ..

دورها في المعرفة وضرورات الوعي الفلسفي بها
تحتلّ الأُطُر والأنساق الفكريّة أهمّيةً كبيرة في إدارة الحوار الفكريّ، وفي صيرورة وسيرورة المعرفة. ولهذا يبدو من الضروري دراستها من الخارج، والانتباه لتأثيراتها ونتائجها.
سوف أحاول في هذه الوريقات أن أشرح هذه الفكرة باختصارٍ، وأعطي بعض النماذج على المدَّعيات التي أقدِّمها؛ لأخرج بمقترحٍ أعتبره ضروريّاً.

ماذا يعني النَّسَق أو الإطار الفكري؟
أعني به الفضاء الفكري والذهني الذي يتحرّك العقل هنا أو هناك ضمنه، فيفكِّر في مداره، ويخضع لقوانينه، ويسير وفقاً لمعاييره.
إنّ الإطار الفكريّ أشبه بالفلك الذي يتحرّك الكوكب ضمنه، فالكوكب ليس جامداً ضمن هذا الفلك، بل هو متحرِّكٌ، وليس فاقداً للخيارات بالمطلق، لكنّه محدودٌ قَهْراً في أقصى اليمين وأقصى اليسار؛ لهذا تكون حركة الكوكب محكومةً ضمن إطار مسار الفلك الذي هو فيه.
دعونا نخرج من المثال التكويني الخارجي إلى مثالٍ إنسانيّ. فكلّ واحدٍ منّا يولد في أسرةٍ أو قرية أو محلَّة أو...، وهذا الفضاء المحيط ليس مجرّد أجسامٍ نحتكّ بها ونحن نطوي سنيّ الطفولة وأوائل الشباب، بل هناك حقلٌ ذهنيّ وقيميّ يحيط بنا... إنّ المحيط الخارجي البشري يتحوّل بنفسه إلى نظامٍ ذهنيّ ووجدانيّ في أعماقنا، ويصبح مداراً فلكيّاً نتحرَّك ضمنه. إنّ اختيارنا وتنقُّلنا الذهنيّ محميّ ومضمون، لكنّ المجال الذي نتحرّك فيه يغدو شِبْهَ قَهْريٍّ بالنسبة إلينا، ولعلّه يمكن القول بأنّنا مجبورون في عين الاختيار، وبالعكس.
هذه الصورة يمكن أخذ نسختها إلى الفضاء الفكري العامّ. فالفضاءات الفكريّة محكومةٌ بدَوْرها لمدارات تتحرّك داخلها، ومن ثم فأنت عندما تفكِّر في موضوعٍ ما فأنت محكومٌ بإطارٍ أشبه بالقهريّ، الذي يفرض عليك أموراً؛ ويدفعك نحو أخرى، ويُبْعِدك عن ثالثةٍ.
عندما نتوسّع فكريّاً نحو الصعد الاجتماعيّة والحضاريّة فنحن نجد الأمرَ عينه. فأتباع مدرسةٍ فكريّة عظيمة الحضور عبر التاريخ تجدهم محكومين بإطارٍ، رغم شدّة عمقهم الفكري ونشاطهم الذهني. وهذا الإطار أو المدار يأخذ لنفسه أشكالاً مختلفة في الثقافات المتنوّعة. فمفهومٌ بسيط، مثل: مفهوم (العيب الاجتماعي)، هو إطارٌ ومدار وجدانيّ ذهنيّ أخلاقيّ، يساعدك في توصيف سلوكيّاتٍ بأنّها صالحةٌ؛ وأخرى بأنّها سيّئةٌ وقبيحة. وبتغيُّر العُرْف الاجتماعي من منطقةٍ إلى أخرى، شرقاً وغرباً، تتغيَّر التوصيفات المتّصلة بالحُسْن والقُبْح تغيُّراً كبيراً.
الأمر عينه نجده في الامتداد الزماني، وليس فقط في التنوُّع المكاني الجغرافي. فأبناء جيلٍ ما يرَوْن الأفعال بألوانٍ تختلف عن الجيل الذي سبقهم أحياناً، إنّ الصورة تبلغ درجةً من الوضوح تشبه إلى حدٍّ بعيد ـ إذا أردْتُ أن أقرِّب الأمر ـ اعتيادَ الإنسان على أطعمته منذ الطفولة. إنّ هذا المدار يجعل شخصاً يأكل أقذر الحيوانات والأطعمة، وهو يشعر تماماً باللذّة والإيجابيّة، في الوقت الذي يشعر آخر بالعكس تماماً. والعكسُ صحيح.
إذن، نحن نعيش في مدارات: ذوقيّة، وجدانيّة، أخلاقيّة، ذهنيّة، فكريّة، واجتماعيّة...


تأثير الأُطُر والمدارات على حركة المعرفة والتفكير
إذا تمكَّنتُ من تقديم توضيحٍ أوّليّ بسيط يمكنني الآن أن أخطوَ خطوةً أخرى، وهي أنّ المدارات والأنساق الفكريّة التي تترك عظيم الأثر على أصغر طالب علم وتلميذ إلى أكبر مفكِّر وفيلسوف... هذه المدارات والأُطُر تُظْهِر نفسها بأشكال مختلفة. وسأذكر بعض الأمثلة لتوضيح فكرتي.

1ـ لكلّ إطارٍ فكريّ عامّ فرضيّاته الممكنة والمستحيلة، أعني أنّ الإنسان إذا عاش ضمن إطارٍ ومدار ما فلن يخطر في باله فرضٌ من الفروض، بينما لو عاش في مدارٍ آخر لكان هذا الفرض (مستحيل الخطور هناك) أسرع الفروض إلى ذهنه.
هذه القضيّة في تقديري بالغة الأهمّية، وخطيرة جدّاً. دعوني أعطي مثالاً بسيطاً: إنّ الذي يعيش في المدار الديني الروحي قد لا يخطر في باله ـ وهو يدرس سبب وقوع مجزرة كربلاء ـ أنّ التحوُّل الطبقي في حياة المسلمين، وتغيُّر وسائل إنتاج المال والثروة؛ بفعل الفتوحات، كان أحد العوامل التي أدَّتْ إلى وقوع هذه الفاجعة... إذن هذا الاحتمال لو خطر على باله فلن يستقرَّ لأكثر من نصف دقيقة؛ لأنّ الاحتمال الذي يُسْرِع إلى ذهنه هو احتمال طغيان النفس وحبّ الدنيا وإدمان المعصية وعصيان أوامر النبيّ و... بينما سيكون افتراض العامل الاقتصادي أوَّلَ الفروض الآتية إلى ذهن باحثٍ اشتراكي في التاريخ، ومؤمن بالمادية التاريخيّة، وسابحٍ في فلكها.
هذا يعني أنّنا نغيب عن بعض الاحتمالات أو نقصيها بسرعةٍ؛ لأجل مداراتنا الذهنيّة، وليس لأجل قيام دليلٍ مبحوث مسبقاً، قائمٍ على الإثبات أو النفي.
إنّ كلّ عصرٍ من العصور المحكومة لمدارٍ فكري معيَّن يُبْعِد فرضيّات عن الذهن الجَمْعي، ويجذب فرضيّات أُخَر بوصفها محتملات معقولة. هذه القضيّة ليست بسيطة.

2ـ تخضع عمليّة تقويم الإثباتات في الموضوعات المختلفة لتأثيرات مداراتنا أيضاً. فبعض الأدلّة تظهر في عقلي واضحةً مفيدةً لليقين وقريبةً جدّاً لمنطقيّة الوقوع؛ لأنّني أسبح في مدارٍ متوالم معها ومع نسقها، بل هو الذي أولدها؛ بينما تظهر أدلّةٌ أخرى واهيةً جدّاً عندما لا تكون كذلك.
عندما تقول اليوم: إنّ هذه الفكرة صحيحةٌ، وتقيم عليها دليلاً، ثم يتمّ تجربتها في الحياة الاجتماعيّة وتعطي نتائج سلبيّة، فإنّ العقل الوضعي لن يتوانى عن استبعادها؛ لأنّه قد ثبت بطلانها. بينما العقل التجريدي الصوري لا يعبأ بقياسٍ أو بمعيارٍ من هذا النوع في كثيرٍ من الأحيان.
عندما تقول لمؤمنٍ: إنّ تجربة الدين لم تُثْبِت جدواها عبر التاريخ؛ فإنّه لا يشعر بجُرْحٍ أبداً؛ لأنّه يرى وبكلّ بساطةٍ أنّ عدم نجاح التجربة لا يدلّ على عدم صحّة النظريّة. بينما نجد العقل العلمانيّ الوضعيّ يعتمد أعظم الاعتماد على ذلك في إثبات طوباويّة الدين، وتصويره على أنّه مقولات جوفاء غير قابلة للتحقُّق، وغير قائمة على وعيٍ حقيقيّ بجوهر الإنسان. لهذا فهو يقول بأنّ الإنسان بنفسه هو ظاهرةٌ لم يفهمها الدين، بينما فهمها العقل المعاصر.
إنّنا نلاحظ هنا أنّ الذي يدفع لليقين أو عدمه، لتصحيح الاستدلال أو عدمه، ليس هو تفكيك الأدلّة فقط، بل هو قبل ذلك المدارات التي يدور فيها، والتي تسرع بنا نحو التصديق بدليلٍ أو عدم التصديق به. إنّها معاييرنا الذهنيّة المسبوكة سَلَفاً، وغالباً بصورةٍ غير واعية، إلاّ عند القلّة القليلة.
بل لو لاحظنا قليلاً لوجدنا أنّ بعض الأفكار تصبح سريعة التصديق لمجرّد كونها منسجمةً مع إطارنا الفكري. فاليوم لو كتبْتَ مقالةً دون أيّ استدلالٍ، لكنّ نَسَق المقالة منسجمٌ مع التوجُّه العرفاني، فإنّ المتحرِّكين في مدار العقل الشهودي ستجدهم يشعرون بالتصديق والثقة والطمأنينة بما جاء في المقال. بينما تجد شخصاً يسبح في فلك العقل العلمي ـ بالمعنى الوضعي المعاصر للكلمة ـ لن تبدو أمامه المقالة، من وجهة نظرٍ منطقيّة، سوى سلسلة من الادّعاءات المصطفّة إلى جانب بعضها بعضاً، والتي تسبح في الخيال والميتافيزيقا غير القابلة للفهم، بل لا تستحقّ النظر العلمي فيها.
لماذا تبدو الأمور هكذا؟ فإذا قال أخصّائيو التغذية شيئاً اليوم عن كيفيّة الأكل فإنّ الإنسان لا يسأل عن الدليل، بينما لو قال فكرةً شبيهة رجلُ دينٍ أخذها من الأحاديث الدينيّة لانهالَتْ عليه الأسئلة الناقدة؟ لا أقصد هنا الحديث عن موضوع التخصُّص وعدمه، والثقة بالمتخصِّص وعدمها، بل أقصد أنّ المتلقّي لا يخطر في باله التساؤل النقدي أصلاً عندما يسمع من أخصّائي التغذية، بينما نجد ذهنه وقّاداً خلاّقاً وولاّدةً للاستفهامات النقديّة عندما يسمع ـ ربما ـ نفس القضيّة من رجل الدين.
هذا كلُّه يرجع إلى الأُطُر الفكريّة التي نستقي منها، ونعيش داخلها.

3ـ واستكمالاً للنقطتين السابقتين، نلاحظ ـ على سبيل المثال ـ كيف أنّ العقل الفلسفيّ المعاصر انتقل من مرحلة إثبات الشيء إلى مرحلة فهمه. فالفهم هو المهم، وليس مجرّد الإثبات. وإذا لم أقدر على الفهم فسيكون الأمر معقَّداً جدّاً أمامي.
سآخذ مثالاً: الوحي. يتحرَّك العقل المدرسي لإثباته من خلال فكرة المعجزة. بينما نجد أنّ الفكر المعاصر لم يَعُدْ يولي المعجزة أهمّيةً كبيرة، بل يركِّز نظره تارةً على ماذا يمكن أن ينفعنا النبيُّ في رسالته اليوم؟ وما هي علاجاته لأوضاعنا؟ وأخرى تحليل ما هي ظاهرة الوحي، وبتعبيرٍ أكثر دقّة: ما هي ميكانيزما الوحي؟ كيف يحصل الوحي بالضبط؟ إنّنا نشاهد العصر الحديث مليئاً بالأفكار والنظريّات التي تهدف تفسير ميكانيزما الوحي أكثر ممّا تهدف إثباتَه؛ لأنّ الغموض فيه بات يترك تأثيراً على الموقف منه.
العصمةُ مثالٌ آخر. فالنبيّ معصومٌ للدليل الفلاني. لكنّ العقل الحديث الدائر في مدارات الحداثة والوجوديّة يبدو ميّالاً للفهم أكثر من الإثبات. فكون الشيء مفهوماً يظلّ أكثر مقبوليّة من الشيء غير المفهوم، ولو قام عليه دليلٌ. فلو فرضنا شخصاً معصوماً عن الخطأ في الذنوب كلّها والموضوعات والفكر والسلوك وكلّ شيء فسيمثل فوراً أمام العقل الحديث السؤال التالي: ما الذي يحصل في كيان المعصوم الداخلي حتّى يصبح هكذا؟ إنّ وصوله إلى مرتبةٍ عالية من العلم لا يفسِّر العصمة؛ لأنّه يوجد فرقٌ بين كون النبيّ لم يخطأ وبين كونه يستحيل عليه الخطأ. إنّ فكرة الاستحالة يبدو من الصعب تفسير الميكانيزما التي تقوم عليها تفسيراً عقلانيّاً عنده؛ لأنّ مجرد العلم لا ينتج الاستحالة، وإنْ أنتج الاستبعاد وعدم الوقوع.
هذا لا يعني أنّ الوحي أو العصمة غيرُ ثابتين، بل يعني أنّ العقل الحديث يشعر بعدم القدرة على الاقتناع بفكرةٍ غير مفهومة وغير معقَّلة؛ ومن ثم غير مبرَّرة.

هذه الظاهرة نجدها في البحث التاريخي واضحةً. فاحتمال صدق الراوي في نقله خبر صعود شخصٍ على الغمام لا يمكن نفيه. لكنّ العقل الحديث هو عقل الفَهْم؛ لهذا يطالبنا بفهم الظاهرة وتفسيرها ميكانيكيّاً، وما ذلك إلاّ لأنّه وقع في مدارٍ فكريّ خاصّ قائمٍ على التعقيل التفسيري، لا على الاقتناع الإثباتي من خارج فضاء التفسير. وهذا كلُّه يفسِّر الكثير من التشكيكات الحالية في القضايا الدينيّة، بل وفي قضيّة الله بالذات؛ لأنّها أكثر القضايا غير المفهومة؛ إذ لا يقدر العقل المحدود على استيعاب اللامحدود، كما يصرّح بذلك أهل الأديان أنفسهم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد