محمد رضا اللواتي
خلافا "لوجدي"، الذي يقترح أن الاعتماد في تحليل الفكر الديني يجب أن يكون على "الحس"، قال: "بما أن خصومنا يعتمدون على الفلسفة الحسية والعلم الطبيعي في الدعوة إلى مذهبهم، فنجعلهما عُمدتنا في هذه المباحث بل لا مناص لنا من الاعتماد عليهما"(1)، أقول خلافًا لهذا التوجه الذي قد تنتهي نتائجه إلى جعل الكائن المادي المحدود في منصة "واجب الوجود" كما تعبر عنه كلمة "اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراءهما"(2)، نرى أن التحقيق العقلي هو وحده الذي يمكنه أن يلج في هذا البحث، بشرط أن يكون مصونًا بقواعد المنطق التي لها الحق وحدها أن تمنح للتحقيق درجة النجاح أو الرسوب.
وفي الواقع، فإن "أصالة الحس" وجعله المقياس الأوحد في المعرفة، كان أحد الأركان الأساسية في وقوع الغرب في قبضة "العدمية" التي يلخصها "فون بادر" في دعامتين، الأولى منهما تتمثل في "نفي الله والعالم المتعالي" وتغييب الألوهية تمامًا عن الواقع، والثانية، "ظهور الإنسان المتعالي" وسيادته الـمطلقة حيث أقام نفسه مقام الإله المخلوع(3)!
وتمثلُ "الولايات المتحدة" دور ذلك الانسان "المتعالي" حيث أوقعت منذ ظهورها قوة عُظمى، العديد من الحروب وجرائم الفتك ونهب الثروات لتقدم بذلك نموذجًا للحضارة الأشد فتكًا ولا أخلاقية عرفها العالم، فبين 1939 وحتى مأساة "هيروشيما" فتكت هذه الحضارة بستين مليونًا من البشر(4)، مع وعود إمبريالية بفتك المزيد أيضًا.
استعرضنا في التحليل العقلي المار إلى إثبات "أصالة الوجود" من خلال التأمل في "حقيقة الوجود" وليس في مفهومه. وبإثبات "أصالة الوجود" نخرج بنتيجة وهي أن الوجود حقيقة واقعية لا ثاني له، لأن غير الوجود ليس إلا العدم، والعدم ممتنع التحقق، فيغدو الوجود صرفًا، فيكون واحدًا بوحدة حقيقية.
يشرح الفيلسوف "مطهري" هذه النتيجة فيقول: "فبناء على أصالة الوجود، إذا قصرنا النظر على حقيقة الوجود وجدنا الغنى والأولية. وبعبارة أخرى: فإن حقيقة الوجود تساوي الوجوب الذاتي، أو نقول بتعبير يرتضيه "هيجل": أن الوجه المعقول لحقيقة الوجود هي الاستغناء عن العلة"(5).
والشفرة السرية "للاستغناء" ستكون "سقوط الحدود" و"الإطلاقية" حيث أن العدم "ليس بشيء" وحقيقته لا تجتمع بالوجود. وإذا أضحى "إطلاقيًّا"، أضحى مستجمعًا للكمالات برمتها، فلا يتصور عقل كمال يخلو منه الوجود الإطلاقي، وهذا هو موضوع الأسماء الحُسنى والصفات العليا.
يقول الكتاب المجيد: "ولله الأسماء الحُسنى فادعوه بها".
لنطلق عنان أبصارنا لتجول في أرجاء الكون من حولنا، ولنفرز حصيلة هذا التجوال، ونضعه بين يدي العقل الفلسفي ليتأمل فيه ويحلله، فماذا يجد؟
مظاهر شتى للحياة، وللعلم، وللقوة، وللجمال، وللإرادة، فهذه الحياة التي نتشبث بها ونخشى أن تفارقنا يومًا، وهذا العلم الذي نطلبه منذ سني حياتنا الأولى وحتى في أواخر أعمارنا، لا نكف عن السؤال عما بدا لنا غامضًا، وتلك القوة والقهر اللذان لولاهما ما تمكنا من تحريك رموش أعيننا، وذاك الجمال الذي يشد نفوسنا فتذوب فيه وتستأنس له، وإرادة البقاء والتكامل والسعي للمزيد الذي تجتاح أرواحنا، هذه لا بد لمقام "وجوب الوجود" المانح لها أن يكون حاويًا إياها.
مساء الجمعة الفائتة، كُنا نتأمل لوحة طبيعة صنعتها يد الخالق القدير، لوحة قهر وجلال تنطلق في دوران هائل من البحر، مصحوبة برياح سريعة جدًّا وسحب مركومة فوق بعضها محملة بأمطار ورعود وبروق، متجهة إلى محافظة "ظفار" العمانية، ورغم المهابة والجلال اللتان كانتا تحفان بها، المفضي إلى الحذر والوجل، لم تكن تخلو كذلك من الجمال، الذي أفضى إلى الأمل والرجاء. إن الذي أضفى على تلك اللوحة "مِكونو" ذلك الحجم من القدرة والإبداع والحياة والجمال لا يمكن أن يكون فاقدًا إياها.
بالإمكان صب ذلك في برهان "معطي الشيء واجد له" البديهي جدًّا، وتكون مقدمته الأولى كالتالي:
فنحن نرى في الكون، كما مر، العديد من الكمالات، كالعلم، والقدرة، والإرادة، والحياة، والجمال، ورغم كونها ليست في مراتبها النهائية، إلا أنها تظل كمالات إذا ما قورنت بنقائضها، كالجهل، والعجز، والجبر، والموت، والقبح، فهذه تُعد نواقص وعدميات في مقابل وجوداتها الكمالية.
ومقدمة القياس المنطقي الكُبرى تكون: إن واهب هذه الكمالات، ومانحها ومُعطيها، من المحُال أن يكون فاقدًا لها، ذلك وبكل بساطة منطقية أن فاقد الشيء لا يُعطيه!
نرى الآن أن نتيجة المقدمتين ملزمة للغاية ولا تقبل النقض وهي: أن وجوب الوجود والوجود الإطلاقي يحوي كل كمال برتبته وهي رتبة فقدان الحدود، أي أنه واجد لكل كمال بنحو إطلاقي. وبعارة أخرى: احتواؤه لها، سيكون في أعلى وأتم وأكمل درجاتها، ذلك لسقوط الحدود عنه، وإطلاقية وجوده وتعاليه الحقيقي كما مر إثباته سابقًا ونكمل توضيحه في الآتي:
وجدان "واجب الوجود" لكل كمال ليس معناه تواجده لديه وتحققه فيه بنحو "المحدودية" بحيث أنها تنتهي إلى حيث تبدأ الصفة الكمالية الأخرى! إن هذا الفهم يقف في مقابل ما أثبتته البراهين من "إطلاق" وجود واجب الوجود. إن القول بأن العلم فيه ينتهي حيث تبدأ القدرة، وهذه تنتهي إلى حيث تبدأ الارادة، معناه سريان الحدود في الوجود الإطلاقي الفاقد للحدود برمتها. ولازم ما مر أن الكمالات المتحققة في وجوب الوجود ليست بحدودها، وبالتالي فإن الوجود الإطلاقي كله حياة، وكله علم، وكله قدرة، وكله إرادة، لا إن بعضه حياة، وبعضه علم، وبعضه قدرة، وبعضه إرادة(6).
رفض "الفخر الرازي" هذه الحقيقة فقال: "وهذا أيضًا ضعيف لأن المفهوم من كونه "قادرًا" غير المفهوم من كونه "عالـمًا"، وحقيقة الذات الواحدة حقيقة واحدة والحقيقة الواحدة لا تكون عين الحقيقتين، لأن الواحد لا يكون نفس الاثنين"(7).
والمذهل في الأمر أن "الفخر" الذي رفض الكثرة هنا، تبنى نظرية "الصفات الزائدة على الذات"، فوقع في القول بخلو "وجوب الوجود" من الكمالات من جهة، وتعدد القدماء من جهة أخرى!
على أن المحققين عالجوا ما تصوره "الفخر" معضلة ومؤداها زوال وحدة وجوب الوجود، فأوضحوا أن "تعدد المفهوم" ليس معناه "تعدد الذات" ولا يلزم هذا منه أبدًا. ذلك لأن هذا التعدد في معنى "الحي" و معنى "العالم" ومعنى "القادر" إنما هو تعدد في المفاهيم، وموقع المفاهيم هو الذهن فحسب! الكثرة في الأسماء في أذهاننا، وإلا فإن مقام وجوب الوجود إطلاقي لا تسري فيه الحدود، وبالتالي لا تتحقق الكثرة فيه على الإطلاق، وإنما الكثرة موقعها الذهن تحديدًا وليس الواقع الخارجي.
يقول "السبزواري": "اختلط عليهم المفهوم والمصداق فيرون اختلاف المفاهيم ويتوهمون اختلاف وجودها ومصداقها بحسبها، وكأنهم لم يقرع أسماعهم جواز انتزاع مفاهيم عديدة من مصداق واحد وهذا نظير أنه يصدق عليك إنك مقدور لله ومعلوم له وإنك شخص واحد"(8).
ويشرح "صدر المتألهين" هذه المسألة بطريقة أخرى فيقول: "واجب الوجود إن وصف بالعلم والقدرة والإرادة لكن ليس وجود هذه الصفات فيه إلا وجود ذاته بذاته، فهي وإن تغايرت مفاهيمها لكنها في حقه تعالى موجودة بوجود واحد"(9).
ثم نقل عن أساطين الحكمة كلماتهم فبدأ بالشيخ الرئيس وهو يقول: "إنه تعالى لا يتكثر لأجل تكثر صفاته، فقدرته حياته وحياته قدرته، وتكونان واحدة، فهو حي من حيث هو قادر، وقادر من حيث هو حي"(10).
ثم نقل عن سلفه "الفاربي" وهو يقول: "وجود كله، وجوب كله، علم كله، قدرة كله، حياة كله، لا أن شيئاً منه علم، وشيئًا آخر منه قدرة، ليلزم التركيب في ذاته، ولا أن شيئًا فيه علم وشيئًا آخر فيه قدرة ليلزم التكثر في صفاته الحقيقية".(11)
انتهينا من هذه التحليلات العقلية والتأملات الفلسفية، إلى أن مقام وجوب الوجود "إطلاقي"، ساقطة عنه الحدود العدمية بالمرة، وفي ذلك يكمن سر "الغنى" فيه، وبناء عليه فهو واجد لكل كمال، بنحو يتناسب مع إطلاق الوجود، فبالتالي تلك الكمالات كلها ترجع إلى بعضها في وحدة وبساطة تامة مع الذات دون أدنى تكثر.
وإنما هي أفهامنا وأذهاننا التي ترى الكثرة، فتفهم من الحياة غير معنى العلم، ومن العلم غير معنى القدرة ومن القدرة غير معنى الإرادة، دون أن يكون هذا التكثر واقعًا في أفق وجوب الوجود.
لقد أرادوا لنا أن نطلب هذا الكمال، وهذه العزة، وهذه القدرة، وذلك البهاء والجمال والجلال اللانهائي، من غيره، من "الولايات المتحدة" وليس منه، عندما أدخلوا العلم في صراع محتدم مع الوحي لأجل إبعاد حضور رب هذا العالم عن العالم(12).
ـــــــــــ
المصادر:
1) وجدي، فريد: على أطلال المذهب المادي ج1ص16
2) الشهرستاني: الملل والنحل ج1ص100
3) الشامي، علي: الفلسفة والانسان ص362
4) الشامي، علي: الفلسفة والانسان ص352
5) مطهري، مرتضى: الدوافع نحو المادية ص53. ترجمة: محمد علي الستخيري
6) السبحاني، جعفر: مفاهيم القرآن ج6ص47
7) الفخر الرازي، وامع البينات: ص24
8) السبزواري: شرح المنظومة: ص154
9) الشرازي، محمد بن إبراهيم: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج6ص120
10) المصدر السابق.
11) المصدر السابق.
12) الشامي، علي: الفلسفة والانسان ص348
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ
الوصول إلى حالة الانغماس وقياس مستواها